Selasa, November 24, 2009

ما تبقى من ابن رشد

ما تبقى من ابن رشد


عزيز مشواط

إن "حاجتنا أكيدة إلى عقلانية ابن رشد"، و"عقلانية ابن رشد مفقودة"، و"لقد أضعنا فكر ابن رشد، فتخلفنا"، هذه مقولات لا يكف بعض المثقفين والمفكرين العرب عن ترديدها بمناسبة أو بدون مناسبة. ولم يخرج لقاء ثقافي نظمته إحدى المنظمات الثقافية بالدار البيضاء مؤخراً حول فكر ابن رشد عن المشهد نفسه، إذ بعد ترديد المقولات الجاهزة السالفة، انخرطت أصوات عديدة أخرى فيما يشبه جلْد الذات التي فرطت في "عقلانية ما أحوجنا إليها اليوم"، قبل أن ينخرط الجميع في الإشادة بهذا الفيلسوف العظيم الذي ظلمه التطرف، فضاع بين دهاليز السياسة والمكر، قبل أن تتلقفه الأرض الأخرى فيزهر عقلانية غربية، أفرزت علماً وحضارة وتنويراً.

ومن فرح أنطوان إلى عاطف العراقي مروراً بعبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وصولا إلى محمد عابد الجابري وغيرهم، يجري التأكيد على حاجتنا اليوم إلى روح العقل التي تختزنها فلسفة ابن رشد. وعلى رغم اختلاف المنطلقات والمرجعيات بين كل هؤلاء المفكرين، نكاد نجزم بأنهم يشتركون جميعاً، حين الحديث عن ابن رشد، في ذلك الحنين المأساوي نحو "ماضينا المشرق" الذي تجسده عقلانيته الفذة. وهنا نتساءل: هل ابن رشد فعلا منتوج عربي مسلم، أم أن انتماءه لهذه الحضارة مجرد انتماء بيولوجي فيما انتماؤه الحقيقي هو إلى الحضارة التي تبنته وعانقت أفكاره؟ ثم لماذا لم تستطع كل هذه الدعوات المرتفعة من كل حدب وصوب المشيدة بعقلانية ابن رشد، استنبات عقلانية عربية يكون جذرها الأصيل ابن رشد، الذي انتمى في تاريخ ما إلى هذه التربة؟

في العالم الإسلامي تعرض ابن رشد للتكفير وحوكم وأحرقت مؤلفاته ونفي، بينما ترجمت أوروبا مؤلفاته ودارت معارك فلسفية حول آرائه، وانقسم الفلاسفة هناك إلى فريقين: فريق مؤيد، وفريق معارض، وفي النهاية انتصر الفريق المؤيد لعقلانية ابن رشد وسار في الطريق العقلاني لتأسيس التنوير.



إن هذا التمايز بين العالم الغربي والعالم الإسلامي في تبني عقلانية ابن رشد وترجمتها، سينتج نموذجين ثقافيين بمسارين مختلفين. الآخر الغربي منتج عصر النهضة وعصر التنوير اللذين يمثلان الأساس الثقافي الذي أفضى إلى بزوغ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، التي بدورها أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين، والعالم العربي الإسلامي الذي نفى ابن رشد ويستمر في رفض المشاركة في المسيرة التي مثلت النهضة والتنوير منتوجيها.

لقد اتهم ابن رشد بـ "الزندقة" و"الكفر" وحاكمه الخليفة الموحدي علناً في جامع قرطبة، ولعنه الحاضرون، وأخرج مهاناً وجمعت كتبه وأحرقت ووضعت قراءتها تحت طائلة العقاب الصارم. وبعد وفاته دفن في مراكش. وبعد أشهر ثلاثة نقل رفاته إلى مقبرة أجداده بقرطبة.

ولعل الوقوف على مشهد طرد جثة ابن رشد إلى "الضفة الأخرى" يحمل أكثر من دلالة. إنها مأساة حقيقية، إذ لم تكن مجرد جنازة معزولة لفيلسوف عاش مضايقات فكرية ومعاناة كبيرة، بل كانت الجنازة لموكب الفلسفة العقلانية المهزومة في ديارها والمطرودة إلى الضفة الشمالية. ورمزية المشهد المأساوي تتمثل في طرد جثمان الفلسفة العقلانية العربية وتوجهها غرباً إلى البر الأوروبي حيث سيوارى التراب، قبل أن يزهر بعد أن تلقفته الجامعات الغربية نقداً وتمحيصاً وشرحاً.

إن الاعتراف في بعض الحالات يشكل نصف العلاج. ومأزق العقلانية في العالم العربي الإسلامي ناتج في جزء كبير منه عن هذا الطرد الذي تعرض له "أرقى ما وصلته الحضارة العربية الإسلامية،" مما أفرز في الوقت الراهن تفاوتاً شديداً بين نخبة مثقفة تحاول استعادة العقلانية المطرودة، ومجتمعات أكثر من نصفها أمي، ناهيك عن بؤس المجتمعات وفقرها الشديد وتفشي الجهل، مما يسهل اختراقها وانجرافها مع توجهات قيم التطرف التي دفعت أصلا إلى طرد ابن رشد.

إن الرسالة الأساسية الكامنة وراء تذكر محنة عقلانية ابن رشد ينبغي أن ترتكز على سبل استعادته من غربته القسرية، وسبل إعادة توطين فكره، ليس كما أنتجه هو إبان حياته فقط، بل كما طورته الإنسانية، بعيداً عن قيود الفكر المتطرف الذي لم يكتفِ فقط بالتضييق على عقلانيته المتنورة، ولكن طرد حتى جثته في اتجاه الغرب، وحكم عليه بالمنفى فانحدر الوضع إلى استنبات تيارات متطرفة استمرت في إدارة العجلة إلى الخلف.



صحيفة الاتحاد

12 تشرين الاول – اكتوبر 2009

Tidak ada komentar:

Posting Komentar