المسلمون والاختلاف على تعريف الزمان وعلته
اليوم العادي يختلف عن الإلهي
وليد نويهض
اختلف المسلمون في القرن الهجري الأول على تعريف الزمن (الزمان) وصلة المسألة بالبدايات (نشوء الكون). وأدى الاختلاف على التعريف إلى توليد اجتهادات حاولت ربط البداية بالنهاية ما أدى إلى تأسيس معرفة تاريخية توثق وقائع الأيام ومجريات الحياة والحوادث البشرية وأفعال الإنسان. وبسبب هذا الربط والفصل بين تاريخ الزمان وتاريخ البشر تشكلت مدارس فقهية وفلسفية اعتمدت منظومات فكرية كان لها أثرها في تطور علوم الدين انطلاقاً من قواعد التفسير للقرآن الكريم وآياته. وأدى هذا الجهد المعرفي إلى إطلاق ما عرف بفلسفة التاريخ في القرون الهجرية اللاحقة.
اليوم
يفرق أصحاب الحديث بين اليوم العادي (الوقت) واليوم الزمني في تفسيرهم للآية «وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء» (هود: 7) استناداً إلى حديث للرسول (ص) أن «كل يوم كألف سنة مما تعدون» و «كل يوم ستون وثلثمئة لحظة». وبناء عليه قرأ المؤرخون قصة الخلق على أساس سبعة آلاف سنة واعترض بعضهم على الأمر، كالمسعودي مثلاً، بذريعة أن القرآن الكريم لم يحدد فترة زمنية لمسألة نشوء الكون والإنسان. وتوقف بعض المؤرخين عند قوله تعالى «تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» (المعارج: 4)، الأمر الذي جعل تقدير مسألة الخلق تزداد صعوبة وتعقيداً، ما دام اليوم 50 ألف سنة.
على رغم الاختلاف على تحديد الفترة الزمنية استمر التمييز بين يوم الإنسان العادي واليوم الآخر. فاليوم الإلهي يختلف في طول مدته. وذكر بعض المؤرخين استناداً إلى ذاك التقسيم بين الزمنين أن الساعة تساوي 83 يوماً. ولعبت مسألة التمييز بين الزمنين دورها في حث المؤرخين المسلمين على التفكير بالزمن كمعطى إلهي يتجاوز الوقت العادي وفي الآن التعاطي معه كمعطى بشري (يومي أو سنوي) الأمر الذي زاد من إلهاب المخيلة وإطلاقها للربط بين بدء الزمن منذ اللحظة الأولى إلى نهايته (يوم القيامة) وهو أمر نلاحظه عند معظم المؤرخين.
أدى التمييز النسبي بين اليومين إلى بحث فكرة التاريخ على مستويين: الأول، مسألة الخلق (السموات والأرض والماء والبحار والكرسي والعرش والقلم واللوح المحفوظ والليل والنهار وسيدنا آدم ومهبطه). والثاني، مسألة البشر والطين وحياتهم واختلاف ألوانهم وطبائعهم وصولاً إلى بعث الرسل إلى البشر.
يقول المؤرخ ابن الأثير «الزمان عبارة عن ساعات الليل والنهار(...) وأن كل وقت من أوقات إمارته زمن من الأزمنة». وبعيداً عن اختلافات المفسرين شكلت فكرة الزمن قوة دفع للتفكير بالتاريخ. وينقل ابن كثير (الحافظ أبوالفداء الدمشقي المتوفى سنة 774 هجرية) قول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): «كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم». فالتاريخ هو خبر (الماضي) ونبأ (المستقبل) والقرآن الكريم هو الدليل. وفي إطار النظرة المذكورة تمت قراءة حوادث التاريخ وجرى الربط بين الماضي (الخبر) والمستقبل (النبأ).
يؤكد السرد الزمني لتطور «الوعي التاريخي» ارتباط فكرة التاريخ بتطور المعرفة وصلة المعرفة بالدين. فالفكر الديني شكل آنذاك القاعدة التأسيسية لنشوء الفكر التاريخي ولعب دوره في تشكل الوعي وتنظيم النظرة إلى الحياة والزمن. وبقدر ما كانت تتقدم أدوات المعرفة كانت وسائل تحليل المعرفة تتقدم معها سواء على مستوى اللغة وتطورها أو على مستوى التفكير وتطوره.
نحو فلسفة للزمن
لاحظ المستشرق فرانز روزنتال في كتابه عن علم التاريخ عند المسلمين أن فكرة «يوم القيامة» أو «يوم الحساب» ألهمت المؤرخين التفكير بالمستقبل وألهبت في الآن المخيلة العقلية على التفسير، فلم يعد التاريخ تاريخ الماضي فقط بل تاريخ المستقبل أيضا «ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون» (المؤمنون: 15 و16). فارتبط السياق الزمني عند المؤرخين بين ماضي الأولين ومستقبل الإنسان. ففي يوم الحشر ستنحل علاقات الحسب والنسب ويتساوى البشر «فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون» (المؤمنون: 101).
إلى الأمر المذكور وضع روزنتال ملاحظة على منهج الكتابة عند المؤرخين المسلمين فرأى أنها محايدة تسجل الأخبار ولا تفسرها. ويربط الأمر بمسألتين: عدم وجود «احتراف» في الحقل المذكور، وعدم استقلال الكتابة التاريخية كمنبر لعرض آراء المؤرخ وهو أمر استمر برأيه إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
لا شك في أن الملاحظة الثانية تثير أسئلة كثيرة بشأن زمنية استقلال الكتابة التاريخية عن حقول المعرفة الإسلامية وهي مسألة تحتاج إلى نقاش لمفهوم نظام الترابط المعرفي في العهود الإسلامية الأولى وارتباط حقول المعرفة بنقطة انطلاق مشتركة خصوصاً في مسألتي علاقة الفلسفة بالتاريخ والتاريخ بالفلسفة.
بينما تطرح الملاحظة الأولى صيغة العلاقة الزمنية بين الماضي والحاضر وبين الحاضر والمستقبل في منهج الكتابة التاريخية. ففكرة القيامة التي التقط روزنتال أهميتها النفسية لا تقتصر على قراءة المستقبل فقط بل إنها تدفع الماضي إلى حاضر زمني وتربط السلف بالخلف في وجود تاريخي راهن.
غير أن مسألة التفكير في المستقبل لا يمكن البحث عنها في حقل الكتابة التاريخية التي حاول روزنتال قراءة رموزها في كتابات المؤرخين. فتلك المسألة تتجاوز حقل التاريخ إلى حقول المعرفة الأخرى من فلسفة وتصوف. فالزمن (الزمان) ليس مجرد حوادث بل هو أصلا فكرة تم صوغها فلسفياً إلى جانب التاريخ. ولم تقتصر فكرة الزمان على ربط السياق بين ماضي الأولين ويوم القيامة بل امتدت إلى ما قبل الماضي واندفعت في بعدها الزمني إلى أن وصلت إلى مسألة الخلق. فالزمن عند المؤرخ المسلم، كذلك المتصوف والفيلسوف، هو ذاك المدى التاريخي الممتد والمتموج منذ لحظة الخلق إلى لحظة القيامة. لذلك نجد فكرة التواصل الزمني (التاريخي) في مختلف حقول المعرفة وخصوصاً في حقل الفلسفة وما يحيط به من مناهج وفروع. فالمؤرخ بحث فكرة الزمان كذلك الفيلسوف وأحياناً كان المؤرخ يقرأ الفكرة فلسفياً والفيلسوف يقرأها تاريخياً في محاولة منه لوضع تصور نظري أو نظام معرفي لفكرة التاريخ.
عن صحيفة (الوسط) البحرينية
العدد 2233 الجمعة 17 اكتوبر 2008 الموافق 17 شوال 1429 هــ
Selasa, November 24, 2009
Langganan:
Posting Komentar (Atom)
Tidak ada komentar:
Posting Komentar