تحديث التعليم الديني في الحوزة العلمية
د. عبدالجبار الرفاعي
يمتد تاريخ الحوزة العلمية في النجف الاشرف الى مايقارب الف سنة, فقد دشن الدراسة فيها الشيخ ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة460هـ, بعد ان اضطر للهجرة اليها من بغداد عام 448هـ, اثر الاضطهاد الذي تعرض لـه على ايدي السلاجقة. ومنذ ذلك التاريخ اضحت النجف حاضرة علمية تحتضن طلاب العلوم الاسلامية المهاجرين اليها من شتى الاقطار, وكان بعض الوافدين يتوطنون فيها, فيما يعود اخرون الى مواطنهم لممارسة التبليغ والدعوة والارشاد, والعمل على تأسيس حلقات للتعليم الديني في المساجد التي يخطبون فيها. وتعرضت الدراسة في النجف لحالات نمو وازدهار في مراحل تاريخية معينة,كما تعرضت في مراحل اخرى لانحسار وضمور, تبعا للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في العراق, والمحيط الاقليمي للبلدان التي ترفد النجف بالتلامذة المهاجرين لطلب العلوم الدينية.
وبموازاة ذلك كانت تتوالد وتندثر حواضر علمية اخرى باستمرار,في حلب, والحلة, وجبل عامل في لبنان, واصفهان, وكربلاء, وقم, وسامراء...وشبه القارة الهندية, وآسيا الوسطى.
ومنذ القرن التاسع عشر أمست حوزة النجف الحاضرة العلمية الأوسع والأهم,لاسيما بعد تبلور مؤسسة المرجعية وتدخلها المباشر في المنعطفات السياسية والاجتماعية في التاريخ القريب لايران والعراق, مثل نهضة المشروطة وصياغة دستور سنة 1906م في ايران, وقبلها حركة الاحتجاج الشعبي على امتياز شركة التبغ البريطانية, ومقاومة الاستعمار البريطاني 1914ـــ1917, وثورة 1920 في العراق.
وبعد هجرة الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي الى قم تنامت بالتدريج الحوزة العلميةفيها, وبلغت ذروة ازدهارها قبل اكثر من خمسين عاما, بعد ان توطنها علماءكالسيد حسين البروجردي, والسيد محمد حسين الطباطبائي, المفسرواستاذ الفلسفة والعرفان الذي شيّد حلقة قم الفلسفية سنة 1952.
ثم تعزز الموقع السياسي والديني, وفيما بعد العلمي لمدرسة قم, بعد انتفاضة 1963 التي قادها الامام الخميني, وانتهت بانتصار الثورة الاسلامية سنة 1979 واقامة الجمهورية الاسلامية.
وبعد ذلك التاريخ اتسع التعليم الديني في قم, واخذ ينفتح على عوالم جديدة, ويحرث ارضا بكرا لم يدشنها من قبل, بعد ان انبثقت طائفة من الاستفهامات, واثير العديد من الاشكاليات, وفجأة بدأ الدارسون في الحوزة العلمية يقرأون ويسمعون بما لم يفكروا فيه, وتفجر السؤال اللاهوتي الذي ظل غائبا عدة قرون.
ولاريب في ان الهوية الدينية لثورة 1979 ومساهمة الحوزة العلمية في قيادتها, وتعبئتها للجماهير, وما نحتته من شعارات ووعود متنوعة في تحقيق الاستقلال, والحرية, والأمن, والضمان, والرفاهية, والتقدم... وغير ذلك. والقول بأن الفقه وعلم الكلام وسائر المعارف الاسلامية الموروثة كفيلة بالوفاء بالمفاهيم والبرامج اللازمة لانجاز هذه الوعود, وتجسيد تلك الشعارات في الحياة الاجتماعية، وضع الحوزة العلمية للمرة الأولى في مواجهة مباشرة مع الناس, ومتطلباتهم الحياتية المختلفة, مضافا الى تصاعد وتيرة التغيير الاجتماعي واشتدادها في العقدين الاخيرين, بفعل مجموعة عوامل تقنية (ثورة الاتصالات) وجيوسياسية (حروب صدام الثلاث) واقتصادية (تراجع عوائد البترول) و(فشل مشاريع التنمية) وديموغرافية (تضاعف عدد السكان) و(الهجرة الواسعة من افغانستان والعراق بسبب الحروب).
كل ذلك افضى الى اختلالات متنوعة, طالت البنى التقليدية الدينية والثقافية للمجتمع, وزحزحت مقولات وآراء ظلت راسخة مئات السنين.
غير ان الحوزة العلمية في النجف لم تتمكن من مواكبة ايقاع التحولات المارة الذكر, فانكفأت وانغلقت على نفسها, ولم يكن امامها الا السير في هذا الدرب الموجع, ذلك ان استبداد وطغيان صدام حسين تجلى بأبشع صورة لـه في استئصال ابرز علماء الدين, كالفقيه والمفكر محمد باقر الصدر, واستبعاد نخبة من الدارسين المتميزين قبل ذلك الى ايران, بذريعة اصولهم الايرانية, وتفريغ النجف من التلامذة الوافدين من البلاد العربية, وفي طليعتهم جماعة من المتنورين اللبنانيين, الذين كان لهم دور فاعل ومؤثر في ايقاد جذوة التحديث في النجف, واقفال المدارس وكليات الدراسات الاسلامية، وبالتالي تقويض وتدمير مشاريع اصلاح النظام التعليمي في الحوزة, بإلغاء كلية الفقه في النجف, وكلية اصول الدين في بغداد.
ولم يقتصر ذلك على النجف, وانما واصل صدام واجهزته الدموية تفتيت كل مفاعيل التحديث في العراق, فأحال النظام التعليمي الى حطام, وهكذا حول معظم من تبقى في العراق من الاعلاميين والادباء والفنانين الى جوقة من المصفقين... واختصر العراق بمدينته تكريت, ومدينته بقريته وعشيرته في العوجة, وعشيرته في عائلته, وعائلته في شخصه.
ويمكن القول ان الحوزة العلمية في النجف تسعى اليوم بجدية, من اجل استئناف مسارها التاريخي, والوفاء بوظيفتها في تحديث التعليم الديني, والخروج من السياقات المغلقة للفكر الاسلامي, وان كانت لما تزل غارقة في جراحاتها ونكباتها الموجعة من النظام الفاشستي الدموي السابق في بغداد.
ارضية التحديث في الحوزة العلمية
يتطلب التحديث ارضية مناسبة يتشكل في محيطها, وعدة عناصر موروثة وحاضرة تتفاعل مع بعضها, لتهيئة فضاء خاص, تتخلق فيه عملية التحديث, وتنطلق فاعلياته المتنوعة.
وقد توافرت مجموعة من هذه العناصر في الحوزة العلمية, بنحو اضحت معه ولادة عملية اصلاح النظام التعليمي ولادة طبيعية, ليست غريبة على السياق الثقافي التاريخي للحوزة. وبوسعنا الاشارة الى شيء من مكونات فضاء التحديث, والعناصر المولدة لروح التجديد في الحوزة فيما يلي:
1ـــ بقايا النزعة العقلانية في التفكير الموروثة من التيارات الكلاسيكية للاعتزال والتشيع, ووحدة اوتقارب المواقف الكلامية في قضايا الحسن والقبح العقليين, وما يرتبط بهما من العدل الالهي, والتكليف بما لايطاق, والحرية والارادة الانسانية, وغير ذلك من لاهوت العدلية في الموروث الكلامي.كما نلاحظ في اثار الشريف المرتضى المتوفى سنة 436هـ وغيره من الاعلام, الذين طبعت اثارهم عقلانية القرن الرابع الهجري.
وما لبثت آثارهم ان صارت مصدر الهام لأجيال من الدارسين ممن خلفوهم في عصور لاحقة, و بثت في وعيهم افكارا وآراء تطلق الكثير من الاستفهامات الحائرة والتشكيكات.
2ـــ تواصل تعليم الفلسفة والمنطق وعلم الكلام واصول الفقه, وهذه المعارف بمجموعها تصنف على العلوم العقلية في التراث, وكان لحضورها الابدي في الحوزات العلمية بالغ الاثر في اطلاق عملية التفكير وتنميتها, وان كانت تلك المعارف ما انفكت تتحرك في قوالب المنطق واشكال القياس الأرسطي, التي ظلت تعمل على كبح العقل, وعدم تجاوز الترسيمات المعروفة في صياغة وتشكيل المفاهيم, وفي المحاججة والاستدلال. لكن آفاق التفكير العقلي لم تنغلق تماما,ذلك ان المنهجية التشكيكية, ونمط الادوات والمفاهيم المتداولة في المعارف العقلية الموروثة أسهمت في ايقاد جذوة التفكير وتأجيجها باستمرار.
3ـــ شيوع دراسة العرفان النظري او التصوف الفلسفي, خاصة نصوص وتراث المتصوف المعروف محيي الدين بن عربي, وهي نصوص تفيض بنزعة انسانية ومواقف تصالحية مع الاديان والثقافات, وتعمل على اكتشاف المشتركات, حين تتوغل في جوهر الاديان, وتغوص في عمق التجارب الدينية لاتباع الملل والنحل المختلفة, لترصد تجلياتها وآثارها العامة.
وهذا ما دعا لاهوتيين كبارا مثل العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ان يتعامل بشفافية واحترام شديدين مع نصوص ديانات آسيوية, يقول المفكر الايراني داريوش شايغان: (العرفان اول ما يسترعي اهتمامي. أجد انشدادا قويا إلى العرفان، انا من عشاق المذهب الطاوي، وأهوى «جوانغ تزو» للغاية. قضينا دورة بأستاذية العلامة الطباطبائي، وكان يبدي رغبة اكيدة في الاطلاع على كتاباتهم، ولأنها لم تكن مترجمة، عكفت انا والدكتور سيد حسين نصر على ترجمتها. كان يفسر شانكارا كأنه استاذ بالضبط، ويتركنا في حيرة من الأمر، فمثلا في أحد الاوبانشادات عبارة تنطوي على مفارقة «الذي يفهم لا يفهم، والذي لا يفهم يفهم» وقد فسّر الطباطبائي هذه العبارة، واجلى غشاوتها، وحلل مضمونها، بنحو أدهشني. بعد ذلك ترجمت انا والدكتور نصر كتيبا صغيرا من تأليف لاوتسه، اسمه «داود جينغ» كله مفارقات. نقلناه من النص الانجليزي الى الفارسية. وحينما قرأه العلامة الطباطبائي قال: «هذه أهم رسالة قرأتها في عمري» وصار من عشاق «داود جينغ»)(1).
كما ان نصوص التصوف الفلسفي تعمل على خلق مناخ رحب للتأويل وتعدد القراءات وتنوع الفهم, وبالتالي تجاوز ظواهر الألفاظ, ومحاولة اقتناص مداليل لاتحكيها الكلمات بصراحة.
وهذا المنحى التأويلي في التفكير يمثل احد المداخل الهامة لكل عملية تحديث واصلاح في تقاليد التعليم الديني ومقرراته.
4ـــ تنوع المواطن الجغرافية لطلاب الحوزات العلمية, حيث يتوافدون من ايران, والبلاد العربية, وافغانستان, وآسيا الوسطى, والهند وباكستان, وغيرها. مما يعني اختلافا في ثقافات هؤلاء, وتقاليدهم, وتمثلهم للاسلام, وتأويلهم للتراث، فينشأ فضاء ثقافي يستقي من روافد عديدة, ويتلون بخبرات تلك الجماعات ومواريثهم وتقاليدهم.
5ــ انفتاح الحوزات العلمية على الجامعات الحديثة, وانخراط جماعة من خريجي تخصصات العلوم الاجتماعية والانسانية والطبيعية في الدراسات الشرعية, وانتقال بعض الاساتذة المتميزين من الحوزات الى كليات الالهيات والدراسات الاسلامية كأساتذة.
6ــ انكماش الحركة الاخبارية في القرنين الاخيرين في الحوزة العلمية.واصحاب هذا الاتجاه يسمون انفسهم (الاخباريين والمحدثين) نسبة الى الاخبار والحديث الشريف, وهو اتجاه يناهض التفكير العقلي في مختلف المعارف الاسلامية, ويتجمد عند المعنى الحرفي للنصوص, ويرفض اية محاولة لتأويل القرآن, والتعاطي مع مداليله بشكل يخترق المفهومات السطحية المبسطة.
وقد تعاظم تأثير هذه الحركة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجري, وانخرط فيها جماعة من المحدثين والفقهاء المعروفين وقتئذ, وهيمنت على الحياة الفكرية في اصفهان وكربلاء, وطبعت الانتاج الفكري بمواقفها, فازدهر تأليف المجاميع الحديثية, التي استوعبت الكثير من الاخبار والآثار, مما اعرض عنه واهمله اصحاب الموسوعات الحديثية القديمة.
واغرقت مصنفات التفسير المدونة بأيديهم بالمأثور, حتى صارت بمثابة المجاميع الحديثية. وشجبوا بضراوة الفلسفة, وعلم الكلام الفلسفي, والتصوف الفلسفي, واصول الفقه, وزعموا ان الحقيقة كلها في البيان الشرعي.
وانحسر تأثير هذه الحركة بعد القرن الثاني عشر الهجري, بعد ان ناقش منطلقاتها وافكارها محمد باقر البهبهاني المتوفى سنة 1206هـ, والمعروف بالوحيد البهبهاني, الذي اعاد الاعتبار لعلم اصول الفقه, وعزز مكانته, واكد دوره المحوري في عملية الاستنباط الفقهي. وبعد هذا التاريخ تراجعت الحركة الاخبارية, وانحسرت بمرور الزمن, واضمحل اثرها في الحوزة العلمية. وبموازاة ذلك تنامى دور الفلسفة, وعلم الكلام الفلسفي, والتصوف الفلسفي, واصول الفقه.
وباتت صياغة الفقه تمر بسلسلة من العمليات الاستدلالية العقلية المغرقة في التجريد والافتراض.
7ـــ مشروع الدولة الاسلاميةكان احد احلام الدارسين في الحوزة العلمية منذ مدة طويلة, وقد استطاعت الحوزة في خاتمة المطاف تجييش وتعبئة الجماهير, تحت لافتات وشعارات تطبيق الاسلام, واشادة حكومة الحق والعدل,من خلال اعادة صياغة الحياة الاجتماعية في ضوء الفتاوى والاحكام الوفيرة في التراث الفقهي, فتحقق الظفر بانتصار الثورة, والاعلان عن الدولة الاسلامية.
لكن الكثير من المتحمسين لتطبيق الفقه, والاستناد اليه في تنظيم الادارة, والاقتصاد والمال, والثقافة, والتربية والتعليم, اكتشفوا غربة حقل واسع من الفقه عن الواقع, وغربة الواقع عن هذا الفقه, لأن الفقه لايعدو الا ان يكون معرفة تشكلت في السياقات الثقافية والحضارية للاجتماع الاسلامي عبر التاريخ,وهذه المعرفة مطبوعة بكل مااكتنف الحياة الاسلامية من اختلالات وظواهر اجتماعية وسياسية وغيرها.
وكان عجز الفقه التقليدي عن الوفاء بمتطلبات الدولة والاجتماع الاسلامي المعاصر, باعثا لانبثاق طائفة من الاسئلة الحائرة, التي ظلت غائبة قرونا طويلة.
ومنها :هل الفقه صناعة بشرية ام تشريع الهي؟ بل هل هناك تشريع الهي يحكيه الانسان, ام ان مايكتبه الفقهاء هو تعبير عن مكوناتهم الذهنية ومفروضاتهم وقبلياتهم ورؤيتهم الكونية؟ وهل الدين والفقه مسؤولان عن ادارة وتنظيم كل مايجري في الحياة البشرية؟ وماالذي يبقيه الدين والفقه من دور للعقل والخبرة البشرية؟ أليس نظام المعاملات الفقهي سوى امضاء وتهذيب للمعاملات والتشريعات السائدة في المجتمع العربي عصر البعثة؟ وهل تتسع تلك الاطر التشريعية الخاصة بمجتمع رعوي بدائي لمجتمعات تجارية وصناعية تسودها الكثير من المعاملات المركبة غير المعروفة للانسان من قبل؟
وهل كمال الدين بمعنى استيعابه وشموله لكل شئ في الدنيا والآخرة, ام انه بمعنى ان الدين لايعوزه اوينقصه شئ فيما يرتبط بأهدافه وغاياته؟
وهكذا ظهر عجز الفقه التقليدي عن استيعاب تطلعات الثوار, وانجازاحلامهم, وتحقيق وعودهم وآمالهم, فاستفاق جماعة من النخب ليحاكموا التراث الفقهي ويسائلوا اللاهوت التقليدي, ويغربلوا مفاهيمهم ومقولاتهم, فلم تعد قناعاتهم الماضية يقينيات, وانما تحول شئ منها الى شكوك, وماانفك بعضهم يرزح في ارتيابه ولايقينه.
8 ـــ في نصف القرن الاخير حدث انزياح واسع للغة العربية في الحوزة العلمية في قم, فأصبحت بالتدريج لغة ثانية, بعد ان عبرت اللغة الفارسية الى الحلقات الدراسية والنقاشية, واصبحت تحتل مواقع العربية في المقررات الدراسية والتعليم والتأليف.
وتغير لغة التعليم الديني يعني تغيرا في الرموز الدلالية, واسلوب بيان المفاهيم, والتعبير عن الرؤى والافكار. ولاريب في ان صياغة المفاهيم والرؤى والاراء والمعارف الدينية بشفرة لغوية اخرى, سيفضي الى تشكيل حقل دلالي بديل, وانبثاق فضاء ثقافي, يستمد مكوناته وعناصره من ميراث هذه اللغة وادابها, وأساليبها البيانية والتعبيرية, ذلك ان لكل لغة معجمها الخاص, وتراكيبها, وبنيتها, ومواضعاتها, وملابسات نشأتها وتحولاتها.
ومن المعلوم ان نصوص كل دين عندما تنقل من لغة الى اخرى, تعاد صياغتها في افاق اللغة الجديدة, وطبيعة ثقافة الشعب الذي يتحدث بها. ممايمنح النص فاعليات وامكانات مختلفة, لم يمتلك شيئا منها في عوالم اللغة السابقة.
وبوسعنا ملاحظة تحولات الفكر الديني المسيحي عندما عبرت نصوص هذه الديانة من الارامية الى اليونانية, فاللاتينية, واخيرا اللغات الاوروبية بعد حركة الاصلاح الديني ودعوة مارتن لوثر لترجمة الكتاب المقدس للألمانية والانجليزية والفرنسية.
هذه اشارات عاجلة لمجموعة عوامل شكلت ارضية مناسبة لتحديث التعليم الديني في الحوزة العلمية.
على ان هناك عوامل اخرى لم نشأ الوقوف عندها, لضيق الوقت, ومن اهمها الاكراهات السياسية والعقائدية, والاضطهاد الذي تعرض لـه التشيع والدارسون في الحوزة في معظم العصور. والاضطهاد والاكراهات الفكرية تنتج قراءات متنوعة للنص, وتعمل على استئناف القول في الموروث, واعادة تأويل المفهومات والاعتقادات في اطار الواقع الشديد الالتباس والتعقيد, وترسخ اشكاليات تظل حية في انتاج استفهامات متنوعة.
مسار التحديث
ارتبط التاريخ الديني للحوزة العلمية في النجف بتوجيه وقيادة المنعطفات السياسية في ايران, مثلما نلاحظ في حركة المشروطة ودستور سنة 1906, اذ كان كل واحد من جناحيها يقوده واحد من مراجع النجف, فالشيخ محمد كاظم الهروي المعروف بالآخوند الخراساني كان منحازا الى الدستور الحديث,وقائدا لحركة المطالبة به,فيما كان السيد محمد كاظم اليزدي قائدا للتيار الآخر الذي عرف في التاريخ السياسي الحديث بـ «المستبدة».
كذلك الفت اهم الأدبيات السياسية عن الدستورية في الحوزة النجفية, مثل كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» للشيخ محمد حسن النائيني, تلميذ الآخوند الخراساني.
كما قاد الميرزا حسن الشيرازي من الحوزة العلمية في سامراء ماعرف بانتفاضة التنباك «التبغ» في ايران قبل ذلك.
وهكذا كانت النجف حاضرة بكثافة في اخطر الاحداث السياسية في العراق,كمافي مقاومة الاستعمار البريطاني, بدءا من سنة 1914عندما دخل الانجليز جنوب العراق, ومراوحتهم وتقهقرهم بفعل المقاومة, وعدم تمكنهم من بسط سيطرتهم على العراق بأسره الا بعد مضي ثلاث سنوات,أي سنة 1917.
وفي ثورة 1920 ضد الاستعمار البريطاني المعروفة في تاريخ العراق القريب بثورة العشرين,كان للنجف الدور الأهم في تعبئة الجمهور واشعال الثورة وفي زعامتها, والتي افضت الى تشكيل الدولة العراقية في السنة نفسها. وبعد حركة الاحتجاج الدستوري سنة1924, ونفي مجموعة من المراجع من النجف الى ايران, تقلص الدور السياسي للحوزة العلمية في الحقبة التالية, حتى استفاق بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ, فبدأت النجف تنخرط من جديد في الحياة السياسية.
كما تعرف الدارسون في الحوزة العلمية قبل اكثر من قرن على شئ من مكاسب العلوم الطبيعية والانسانية في الغرب, عبر ماكان يصل الى النجف من مطبوعات ودوريات القاهرة وبيروت.
بالاضافة الى تأسيس المدارس وتدشين النظام التعليمي الحديث في العراق, ومغادرة اسلوب التعليم التقليدي في الكتاتيب.
هذه العوامل وغيرها من تحولات تمدينية, واجتماعية, وثقافية, واقتصادية في المجتمع, جعلت الدارسين في النجف في مواجهة عالم مختلف, يضج بالحركة والتغيير, لاتكرر الحياة فيه نفسها, مثلما كانت في الأيام الماضية,بل تتسرب كل يوم مفاهيم وآراء وأسئلة متنوعة, لم يألفها تلامذة الحوزة قبل ذلك.
في ظل هذه المعطيات نشر للمرة الأولى بعض الطلاب ملاحظات نقدية على المقررات المتعارفة للدراسة في النجف, فمثلا يقول احدهم ـــ الذي رمز لاسمه بـ«النجف عراقي» ـــ في مقال نشره سنة 1913 «المطول: عبارته اشكل من معناه, وفيه من النحو وفلسفته, والمنطق وأدلته, وغيرها من العلوم, اكثر ممافيه من علمي المعاني والبيان, وكتاب كفاية الأصول: عبارته مغلقة للغاية».(2)
ويكتب تلميذ آخر «وصلت في دراستي الحوزوية على الطريقة القديمة في الدراسة الى كتاب كفاية الأصول الذي صدمني بتعقيده ورموزه وسوء تعبيره,مما يولد في نفسي رد الفعل عن مواصلة دراسة هذا العلم»(3).
وكان السيد محسن الامين العاملي من الرواد الأوائل لحركة الاصلاح في تقاليد التعليم الديني, وقد لخص رؤيته في مقالة تحت عنوان «اصلاح المدارس الدينية» شدد فيها على ضرورة استبدال الكتب الدراسية.(4)
كما اصدر السيد هبة الدين الشهرستاني مجلة «العلم» في النجف, في 29آذار 1910, وكانت تعنى بالدعوة الى تبني الأساليب العلمية ونبذ ماسواها.
وتألفت عدة جماعات, ظل معظمها يباشر عمله بتكتم وسرية, ويوجه خطابات الى العلماء البارزين انذاك تطالب باصلاح الحوزة العلمية (5). وكانت هذه الجماعات ـــ حسب ما ذكره الشيخ محمد رضا المظفر, ابرز رواد حركة الاصلاح في النجف ـــ الذي يصفها بأنها «اشبه بجمعيات سرية أو مجالس تمهيدية في طريق الاصلاح... واتذكر جيدا ـ والكلام للمظفرـ اني اشتركت في احداها, وكنت كاتبها, واعضاؤها كلهم من الشباب الديني ذلك اليوم... ولاازال احتفظ بمحاضر جلسات جماعتي الأولى تلك, وبمذكراتي الخاصة عنها وعن غيرها, وهي على بساطتها تمثل لي مقدار التكتم والخوف الذي كان يساورنا, وكان عملنا وتفكيرنا مقتصرا على تفقد المفكرين من اصحابنا, الذين يحسون بالداء مثلنا,وبالرغم من مواصلة الجلسات والتفكير طيلة عام واحد,لم نستطع ان نخرج صوتنا من غرفتنا الا بعض الشئ»(6).
وتمخضت جهود الشيخ المظفر وجماعته عن انشاء «جمعية منتدى النشر» وميلاد «كلية الفقه» في فترة لاحقة, والتي صارت اهم مشروع تحديثي في النجف.
وقبل اكثر من مئة عام أسس الشيخ محمد جواد الجزائري «نقابة الاصلاح العلمي» في الحوزة العلمية, سنة 1323هـ, وقد تبنت النقابة صيغة تستند الى الشورى في بناء هيكلها وقيادتها, وشددت على ذلك في اكثر من مادة في ورقة عملها, وألزمت المنتسبين اليها بكتمان اسرارها, وعدم الافصاح عن اسماء الأعضاء الآخرين,كاجراء احترازي لتفادي الشائعات والتهم, وماتفضي اليه من مخاطر أمنية تجتث النقابة في مهدها(7).
ولسنا في مقام التأريخ لمسار الاصلاح في النجف, لأن في هذا المسار طائفة من الاعلام, ومجموعة من المنتديات, وعددا من المدارس, وبعض المطبوعات والنشرات, ينبغي ان نلم بها, ونقف عندها وقفة تقويمية, نقرأها في اطار المتغيرات ومجمل الملابسات السائدة ذلك الوقت.
اما مديات التحديث فيمكن الاشارة اليها من خلال بعض الرؤى النقدية لعلماء معاصرين, من اعلام مدرسة النجف, وتحليلهم لظاهرة الانكفاء, ومناهضة أية عملية تطوير، وطغيان الحالة السكونية على الحياة العلمية في الحوزة, والعلاقة بين هذه الحالة ونمط المفاهيم التي يدرسها التلامذة. يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر: «الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول, طبقناه على أساليب العمل, وطبقناه على حياتنا, فكنا نتجه دائما الى ماكان, ولا نفكر أبدا في انه هل بالامكان ان يكون افضل مما كان؟ لابد ان نتحرر من النزعة الاستصحابية, ومن نزعة التمسك بما كان حرفيا بالنسبة الى كل أساليب العمل, هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا,حتى ان كتابا دراسيا مثلا ـ امثل بابسط الامثلة ـــ اذا اريد تغييره بكتاب آخر في مجال التدريس ـ وهذا أضأل مظاهر التغييرـ حينئذ يقال: لا ليس الأمر هكذا,لابد من الوقوف,لابد من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الانصاري رضوان الله عليه, اوالمحقق القمي رضوان الله عليه. هذه النزعةالاستصحابية التي تجعلنا دائما نعيش مع امة قد مضى وقتها, مع امة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها, لأننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع امة لم يبق منها احد, وقد انتهت وحدثت امة اخرى ذات افكار اخرى,ذات اتجاهات اخرى,ذات ظروف وملابسات اخرى...»(7).
ولم يتوان الشيخ محمد مهدي شمس الدين من ان يتحدث بصراحة عن قصور اسلوب التعليم التقليدي في الحوزة, وفشله في مواكبة ايقاعات الحياة ومتغيراتها, فيكتب: (يكفي للدلالة على عدم واقعية النظام الدراسي القائم فعلا, أنه نظام لايفشل فيه طالب, ولايرسب فيه طالب, وان جميع المنتسبين اليه يتخرجون علماء. هذا النظام لايزال حتى كتابة هذه الكلمات على الحال التي كان عليها منذ مئات السنين, فهو يقوم على لا نظام. انه فوضى. ففيما عدا الكتب المقررة ـ بقوة التقليد, وليس لأنها اصلح الكتب ـ لايوجد أي نظام يحكم الحياة الدراسية على الاطلاق, وانما هي الفوضى الكاملة الشاملة, ومااكثر «المشايخ» الذين يكتسبون صفتهم الدينية «والعلمية؟!»من عددالسنين التي قضوها في النجف دون ان يكتسبوا منها شيئا سوى بعض الحذلقة الكلامية. وكثيرا ماينادى بأن هذا النظام «الدراسة الحرة!!»ـ وأحرى ان يسمى الدراسة السائبة ـ لـه فضيلة كبيرة, هي اتاحة الفرصة امام الطلبة للمناقشة والبحث. ولكن أي فضيلة هي هذه التي بسبب مايدعى من المحافظة عليها تتسيب مؤسسة تدريسية بكاملها. ان هذه الفضيلة الأفلاطونية لاتساوي التضحية المبذولة من اجلها, على انه ليس ثمة ما يمنع ابدا من المحافظة على هذه الفضيلة مع الأخذ بأسباب النظام)(8).
وربما لم تتراكم مكاسب جدية واستثنائية لحركة الاصلاح في الحوزة العلمية فيما مضى, باعتبار ان دعوات هذه الحركة لم تتوغل في بنية اللاهوت الكلاسيكي, ولم تطاول مرتكزات المعارف الدينية التقليدية, واقتصرت في الغالب على دعوات مطلبية آنية, تتمحور حول استبدال كتاب بكتاب, واسلوب تعليمي بآخر, والخروج من تلغيز عبارات المصنفات القديمة واغلاقها الى مصنفات تعبر عن الافكار بجلاء, وتختزل الاستطرادات, والمباحث المتطفلة على موضوعات العلوم.
غير ان مردودات قرن كامل من محاولات تحديث التعليم الديني في الحوزة العلمية وضعتنا على اعتاب مرحلة جديدة, نلمح فيها ارهاصات انبثاق سؤال ميتافيزيقي ولاهوتي مختلف, وبذور جنينية لميلاد لاهوت جديد, لايخشى من توظيف معطيات العلوم الراهنة في قراءة النص والتراث، ويعمل على تجاوز يقينيات المنطق الأرسطي, وتفكيك مقولاته وادواته الجزمية الراسخة.
مستويات التحديث
لاريب في ان محاولات اصلاح التعليم الديني في الحوزة العلمية تفاعلت في عدة مستويات, ومهدت السابقة منها لما يليها, وكلما ارتقت الى مديات اقصى، صعودا من درجة الى اخرى, اضحت الدرجة الأدنى من التحديث مألوفة, وانحسر خصومها بالتدريج, بل طالما انخرط جماعة من الخصوم ـــ فيما بعدـــ فيها, وحاولوا تبني مطالباتها بحماس وحرص شديدين. فبينما كانت الدعوة لاستبدال الكتب القديمة, وتجاوزالاسلوب التقليدي في التعليم, يطرحها الرواد بحذر وخشية في مطلع القرن العشرين, باتت اليوم دعوة عادية غير مثيرة, ولا تستفز احدا, واخذت تتفشى في اكثر مدارس الحوزة العلمية.
وهكذا يرتاب الناس من كل فكرة جديدة, وربما كانت الافكار الهامة في التاريخ فضيحة في حينها, الا انها بعد ان تحتل موقعها في النسق المعرفي، وتدخل في السياقات الثقافية للمجتمع, تغدو لاغنى عنها.
وفيما يلي عرض موجز لمستويات ودرجات تحديث التعليم في الحوزة:
أولا: تحديث شكلي
وهو أول انماط التحديث، وغالبا ما يقتصر على الاطر والاشكال، ولايطمح في ملامسة المضامين إلاّ بصورة محدودة جدا، ويسود هذا النمط دعوات التحديث في النصف الأول من القرن العشرين، وقد انحسرت الاتجاهات المناهضة لـه بمرور الزمن، وامسى اليوم لا يثير أحدا، فتعامل معه الدارسون كأمر واقع، ولم يشعروا بأنه يتقاطع مع الأساليب والمقررات التعليمية الموروثة.
وقد تجلى هذا النمط التحديثي في الأشكال التالية:
أـــ اعادة تدوين المقررات والكتب المتعارفة للدراسة، بإسلوب حديث، يتخلص من الصياغات الكلاسيكية لتلك الكتب، المشبعة بالابهام والغموض، واستيعاب طائفة من الموضوعات الهامشية، والتوسع فيما ينبغي الاختصار، والاختزال والتكثيف فيما ينبغي التوسع، والاضطراب المنهجي في ترتيب المسائل. فاهتمت الكتب البديلة بإعادة ترتيب المسائل وفق منهجية أحدث، وتهذيب واستبعاد ما هو هامشي، والتدوين باسلوب واضح، يبتعد عن الاختزال والغموض. ومن ابرز هذه المؤلفات:
1ـــ المنطق للشيخ محمد رضا المظفر
2ـــ اصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر
3ـــ دروس في علم الأصول للسيد الشهيد محمد باقر الصدر
4ـــ بداية الحكمة للسيد محمد حسين الطباطبائي
5ـــ نهاية الحكمة للسيد محمد حسين الطباطبائي
ب ـــ تنظيم البرامج والفصول الدراسية، والسعي لتدشين تخصصات في المعارف الاسلامية، وتعزيز طريقة الامتحانات والاختبارات التحريرية والشفوية, واعتماد الدرجات والرتب العلمية، ومحاولة منح التلامذة اجازات وشهادات معادلة للإجازات والشهادات الممنوحة في الجامعات اليوم.
ثانيا: محاكاة الصيغة الحديثة للتعليم الجامعي
كلية الفقه في النجف أول مؤسسة تعليمية في الحوزة العلمية توظف صيغة التعليم الجامعي، وتقرر مساقات تستوعب علم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة الغربية، والقانون، والتاريخ... وغيرها من العلوم الانسانية الحديثة، بجوار المعارف الاسلامية المدروسة في الحوزة العلمية، مع تأليف كتب اخرى، غير ماهو متعارف، تتضمن المباحث ذاتها، بإسلوب يحاكي المقررات الجامعية، أو انتخاب أبواب أو أجزاء من المؤلفات التي تدرس في الحوزة.
ثم استعادت كلية أصول الدين في بغداد تجربة كلية الفقة بعد سنوات، وربما كان لموقعها الجغرافي، وابتعادها عن النجف أثر في اقترابها من نمط الدراسة الجامعية اكثر من الحوزوية.
وفي العشرين سنة الأخيرة ظهرت في قم وطهران عدة كليات وجامعات للإلهيات والدراسات الشرعية, وتجسد هذا النمط في تحديث التعليم الديني. منها «جامعة الامام الصادق» و«جامعة الشهيد مطهري» في طهران، و«جامعة الشيخ المفيد»، و«جامعة الامام الخميني» في قم. و«الجامعة الرضوية» في مشهد.
ونمط التحديث في هذا المستوى يتجاوز الأطر والاشكال الى حد ما، ويهتم بترسيم تقاليد جديدة للتعليم الديني، ويسعى للامتداد الى آفاق أرحب، عبر الانفتاح على معارف العصر، والارتقاء بالبرامج الدراسية الى مساقات التعليم الجامعي، واحداث تخصصات متنوعة في المعارف الاسلامية، باستعارة الحقول المختلفة للعلوم الانسانية، أو تدشين تخصصات في العلوم الانسانية، مع تركيبها أو مزاوجتها بالمعارف الموروثة، بعملية استيعاب ودمج، ربما تبدو جوهرية وشاملة احيانا، فيما تبدو صورية ومبسطة في أغلب الأحيان، بمعنى انها تستغرق في استعارة شكل الصيغة الحديثة في الجامعات، لكنها تتعثر وتضطرب في القدرة على تمثل القديم، واعادة انتاجه في سياقات العصر.
ثالثا: تحديث يطاول بنية المعارف الاسلامية ويمهد لانبثاق السؤال اللاهوتي الجديد
منذ عشرين عاما بدأت تتشكل في طهران حلقات دراسية ونقاشية، تهتم بالتفكير باستفهامات لاهوتية لم يعرفها المهتمون بالدراسات الاسلامية في ايران قبل هذه الفترة. تدور حول: ما يترقبه الانسان من الدين، وجدل العلم والدين، والعقل والمعتقدات الدينية، وطبيعة التجربة الدينية, ومجال الدين وحدوده في حياة الانسان، وهكذا حقل الفقه ومدياته، ومشروعية الدولة الدينية، وامكانية توظيف المناهج والادوات المعاصرة للعلوم الانسانية في دراسة التجربة الدينية والتراث والنص... وغير ذلك، مما يعرف اليوم بمباحث «فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد» في ايران.
وبالتدريج حفلت مجموعة من الدوريات الناطقة بالفارسية بهذه الموضوعات، واهتمت دور النشر بطباعة عدد وفير من الدراسات المترجمة عن الانجليزية والألمانية والفرنسية، التي تتناول قضايا فلسفة الدين، واللاهوت الكنسي الحديث، والتعددية الدينية، والهرمنيوطيقا والتأويل، وفلسفة اللغة، والالسنيات، وفلسفة العلم... وغيرها.
وكانت الحوزة العلمية في قم أول محطة لهجرة هذه النقاشات والكتابات من طهران، فقبل عشر سنوات افتتح الدكتور عبد الكريم سروش، وهو أحد ابرز المفكرين في هذا الحقل، حلقة لدراسة علم الكلام الجديد في قم, وظل يديرها بنفسه أكثر من سنة، وكان يختلف اليها نخبة من تلامذة الحوزة العلمية.
واستعر السجال بين الدارسين في ايران حول مشروعية توظيف مناهج العلوم الاجتماعية الغربية، وهكذا أدوات ومقولات اللاهوت الجديد, في الدراسات الاسلامية، بل مشروعية الاشتغال على بعض المباحث، وتأجيج اسئلة، واثارة اشكالات من شأنها ان تزعزع ايمان الناس وتعصف بمعتقداتهم.
وبالرغم من هذه الاعتراضات وازدياد مظاهر الاحتجاج على هذا اللون من الابحاث، لكن عدد المنخرطين في السجال اتسع، فاستوعب النخبة في الحوزة العلمية والجامعات، وصار من أهم مشاغل المنتديات الثقافية ومراكز البحوث، والدوريات الفكرية.
ثم توغلت هذه المباحث في اقسام دراسات الفلسفة وعلم الكلام وغيرهما في كليات الالهيات والشريعة.
ومع ان هذا النمط من التحديث لم يزل في خطواته الأولى، إلا انه يطمح لاحداث اصلاح عميق في بنية المعارف الاسلامية, والافلات من التقاليد الموروثة, والجرأة في نقد التراث, وعدم الخشية من استعارة الادوات المنهاجية من العلوم الاجتماعية الغربية, بل ومن اللاهوت المسيحي الجديد, وتوظيف المكاسب العلمية في قراءة وتقويم الموروث, والعمل على تدشين رؤى ومفاهيم بديلة, والدعوة لاعادة بناء العلوم الاسلامية, والتخلص من فرضياتها وقبلياتها ومرجعياتها التقليدية, فعلم الكلام مثلا يغدو(علم كلام جديد)يتحرر من مقولات الكلام القديم, وينفتح على الجغرافيا الراهنة للمعرفة البشرية, ويتعاطى مع نتائجها بلا وجل, ويعيد صياغة الهندسة المعرفية للعقائد بنحو مغاير لما مضى.
وعلم (اصول الفقه)يطمح ان ينتقل الى فضاء معرفي آخر, يبحث القبليات الثاوية في لاوعي الفقيه, ويتوغل لاكتشاف العناصر المستترة في ذهنه، والمرجعيات المدفونة في عقله, التي تنتج الفتوى, فيرتقي (اصول الفقه) الى (فلسفة الفقه)...وهكذا (معارف اللغة العربية وادابها) تعمل على توظيف العلوم (الالسنية)وعلوم(التأويل والهرمنيوطيقا) وغير ذلك.
وأصبح يعمل بعض الدارسين على اعادة تدوين تاريخ المعارف الاسلامية في ضوء مقارنتها بالأديان والمواقف الفلسفية واللاهوتية, فبرز اهتمام بدراسة الاديان الآسيوية اضافة الى الاديان السماوية المعروفة, وتأسيس اكثر من مركز للبحوث, وعدة دور للطباعة والنشر, متخصصة بدراسة الاديان والحوار بين الثقافات والحضارات, ونشطت حركة نشر وترجمة المؤلفات المهتمة بذلك من اللغات الانجليزية والالمانية والفرنسية, واللغات الآسيوية (الصينية والهندية) احيانا. ومن الواضح ان الدراسة المقارنة تضئ كل الابعاد والعناصر المبحوثة وتوضحها بجلاء, بخلاف ما لو درست المسائل في داخل جدرانها وسياجها الخاص.
ويدعو هذا الاتجاه الى تحرير الايمان وتطهيره من التشوهات التاريخية, من خلال التمييز بين اسلام الحقيقة واسلام الهوية, او اسلام الرسالة واسلام التاريخ, او اسلام الوحي ومصدره الالهي واسلام الشروح والحواشي والتفسيرات والتجربة التاريخية للمسلمين ومصدرها البشري, او التمييز بين الدين ومعرفة البشر بالدين, او الوحي المقدس وماقدسه الناس بفعل تراكم الزمان.
كذلك يسعى الى استخدام الادوات المنهاجية للعلوم الانسانية وعدتها المعرفية, في تفكيك وتشريح ونقد التراث, ومحاولة التخلص من الطابع الايديولوجي التبجيلي في دراسة المعارف الاسلامية, والتفتيش عن وسائل وسبل اخرى توصلهم للدراسة الابستمولوجية التاريخية النقدية.
الهوامش:
(1) شايغان, داريوش.«التعايش بين الاديان». مجلة قضايا اسلامية معاصرة ع 22(شتاء 2002 ).
(2) مجلة لغة العرب (بغداد) س2: ج10 (ربيع الاول1331هـ/ شباط1913). مقال «كتب القراءة وطريقة التدريس عند الشيعة في العراق».
(3) الخاقاني، علي. شعراء الغري. ج7: ص351.
(4) الامين، محسن. معادن الجواهر ونزهة الخواطر. ص 40-46.
(5) مجلة العرفان، مج23: ج3 (شعبان1351ـــ كانون أول1932) ص688.
(6) الآصفي، محمد مهدي. مدرسة النجف وتطور الحركة الاصلاحية فيها. ص113.
(7) الرفاعي، عبد الجبار. منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الاسلامي. ص48-49.
(8) الصدر، الشهيد محمد باقر. المحنة. ص76-79.
(9) شمس الدين، الشيخ محمد مهدي. مواقف وتأملات في قضايا الفكر والسياسة. ص216-217.
عن موقع دراسات فلسفة الدين.
Selasa, November 24, 2009
Langganan:
Posting Komentar (Atom)
Tidak ada komentar:
Posting Komentar