الابداع اللفظي في القرآن الكريم
د. سليمان عبدالله موسى أبو عزب
Monday, 22 September 2008
تناول الباحثون معنى المفردة القرآنية، ولكن المعاني الخاصة بها ما زالت بكرً وقابلة لدراسات كثيرة، لذلك علينا أن نواجه هذه القضية في ضوء دراسات تختلف عن الدراسات السابقة، لأننا باستمرار أمام وحدات أو تنظيمات جديدة..
علينا أن نعيد قراءة القرآن في ضوء فكرة تنظيم المفردات القرآنية، لأن المعنى في القرآن كائن لا يتغير ولا يتبدل...
خاض البعض في معنى المفردة القرآنية وأطنب فيما يشبه نظرية (التفضيل والتوصيل للمفردة القرآنية: حيث ربط كل مفردة قرآنية مع جنسها من المفردات الأخرى، وجعل كل مفردة مدخلاً لفصل قائم بذاته.. ولم يوفق هذا البعض عندما طبق نظريته عمليا على مفردات القرآن، والسبب.. إثارة قضايا قرآنية أكبر من طاقة البشر.. من هذا كله.. إننا ما زلنا بحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسات المستنبطة من مفردات القرآن الكريم...
التمهيد: المصطلح في المفردة القرآنية
المقصود بالمصطلح في المفردة القرآنية هو تجليه تلك المفردة التي ما تزال مغمورة في سياقها الأصيل، حيث لم تتوجه أنظار الباحثين إلى تلك الأصالة، تحتاج إلى المزيد من البحث، وأعني بذلك ظاهرتي المعنى اللغوي والمعنى الإصلاحي (السياقي) لتلك المفردة.
أن تحديد المعنى الاصطلاحي لسياق المفردة القرآنية ما يزال بكراً ويحتاج إلى المزيد من الدراسة، وخاصة أن الباحثين اهتموا إلى حد بعيد بالمعنى اللغوي المترادف والتضاد والاشتراك اللفظي من خلال التركيب، مع اعتقادهم أنهم قد وصلوا إلى مفهوم التعبير الاصطلاحي السياقي البعيد لتلك المفردة، وكأنهم ظنوا أيضاً انهم قد درسوا المفردة القرآنية بجانبيها المادي والمعنوي اعتماداً على بعض العناصر الدلالية الواضحة لديهم..
ولكن اعتقادي انهم ما زالوا يجهلون كيفية تفسير المفردة القرآنية والتواضع على استعمالها على الأقل من ناحية المعنى الاصطلاحي السياقي، لأنه نطق بتلك المفردة في ظروف واعتقادات معينة، سبقت البشر، وفي ظروف أعلم وأعم من طاقة الإنسان.. مما جعلها تتمتع بقدر كبير من الشيوع والتكرار في نظر الباحثين، وتوهموا جدلاً أنهم قد وصلوا إلى حقيقة المعاني فيها، وقاسوا عليها المجالات الدلالية والتعبيرات الاصطلاحية الشائعة والتي جمعوها من الصحاح واللسان والتاج، والتي اهتمت بالنشاط اليومي الحركي والذهني للإنسان، إلى جانب التعبيرات الخاصة بحديث الإنسان وانفعالاته ومشاعره بالإيجابيات والسلبيات التي يتعامل معها في يومه وغده..
من هذا كله اعتقد الباحثون أنهم قد أوصلوا المفردة والقرآنية بجانبيها المادي والمعنوي، وبخصائصها ومجالاتها الدلالية وأنماطها التركيبية بالشكل المتكامل، وبذلك يظنون أنهم وصلوا إلى فك إعجاز تلك المفردة القرآنية في نظرهم..
أما ما نرآه مناسباً فهو يجب أن تكون هذه الدراسة الخطوة الأولى على بداية الطريق، وان يتبعها قفزات أخرى لدراسة واستقراء المعاني والتعبيرات الاصطلاحية السياقية الأصلية، فتكون هذه دراسة قرآنية متجددة بتجدد القرآن الكريم في كل زمان ومكان، وهذا العمل يفتقر إلى لغتنا العربية عامة والمفردة القرآنية خاصة..
أن الدرس الدلالي الذي قام به الباحثون من قدامى ومحدثين، اقتصر اهتمامهم فيه على دراسة المفردة القرآنية وتحليلها من خلال المعنى اللغوي المعجمي الذي يدرس معنى المفردة من خارج سياق المعنى، والسبب في ذلك أنه لا توجد لدينا المعجمات التي اهتمت بالمعاني والتعبيرات الاصطلاحية السياقية، فتلك المعاني والتعبيرات منقطعة ومهجورة ومهملة، لأنه لا اتفاق على مفهوم تلك المصطلحات السياقية من ناحية، ولعدم وضوحها في أذهان الباحثين وفي دلالته، ولأن الثبات من الخصائص المميزة له، لأنه يستمد معناه من العلاقة السياقية أو الاسنادية للمفردة القرآنية، ويخضع لبنية التعبير والثبات فيها ولا يخضع للتعبير والتبدُل وخاصة أن تعبيرات في القرآن الكريم لا تَغير ولا تبدُل فيها؛ لأن كل تغيير أو تبدل يؤدي إلي تحطيم المعنى تماماً..
دراسة في تأصيل المفردة القرآنية
تناول المفسرون وكثيرا من الباحثين والنقاد ، المفردة القرآنية وحاولوا قدر جهدهم أنّ يضيئوا السبل أمامنا في تفسير مفردات القرآن الكريم.
ولكن حسب اعتقادي، ما يزال للأفكار التي سأحاول وصفها من خلال هذا البحث الصغير مكان جاد، لاهتمامي بمسألة المفردة القرآنية..
أن المعاني الخاصة بالمفردة القرآنية، وبخاصة في المجال التطبيقي، أعني الشروع والتفسيرات، وما تزال بكراً وقابلة لدراسات كثيرة في المعنى وطرق الكشف,.. واعتقادي..انه ما يزال تصوّر المفردة القرآنية لمسألة المعني من الأمور المهملة التي عزف عنها الدارسون لصعوبتها، وحاجتها إلى دراسات كثيرة متفرقة في اللغة وفي التفسير وفي الفلسفة القرآنية ـ إن صح لنا هذا التعبير ـ وفروع أخرى كثيرة لا حصر لها، وقد نعلمها، وقد لا نعلمها لأنها جزء من الإعجاز القرآني.. وقد اكتفى بعض الدارسين بترديد بعض القضايا التي من بينها أن المفردة القرآنية، قد تدرس على أساس منهج غير سليم، وان اللغوي يكتفي بوصف الظاهرة اللفظية ولا يبحث عن تعليلها.. من هذا المنطلق.. فقد أهمل الباحثون فيما اعرف مسألة المفردة القرآنية، إهمالا لا يمكن الدفاع عنه بسهولة.. وخاصة أن كل فرقة من الفرق الإسلامية تجد في المفردة القرآنية ما تريده هي، إما بالتأويل أو أخذ المعنى الخارجي والسطحي لمفهوم المفردة القرآنية..
لذلك.. علينا أن نواجه هذه المشكلة الغامضة بصبر كبير، وذلك بإعادة المفهوم لمعنى الظاهرة اللفظية في المفردة القرآنية في القرآن الكريم، وفي ضوء دراسات تختلف عن الدراسات السابقة، حيث نضفي عليها، من ثقافتنا الحديثة الصحيحة مفهوماً جديداً أو ضوءاً، عسى أن تجد العقلية الإسلامية إشباعا اكثر في هذه المباحث وما إليها..
واعتقادي.. أن المتقدمين والمحدثين، قد لاحظوا هذه الملاحظة، ولكنهم وقفوا عاجزين أمامها، وهذا يعود إلى أن الخبرة بالمعنى الدقيق للمفردة القرآنية، يكتنفه ضباب واستعمالات غير دقيقة ومشوشة..
وليس من العيب أن نراجع معاني المفردات القرآنية، تلك المراجعة التي تحررنا من سلطة الغموض، وتجعلنا أقرب إلى التفكير المنطقي السليم، وخاصة إذا كنا اقرب ما نكون من إعجاز القرآن الكريم من خلال تفسير مفرداته... أن الباحثين حسب ظني لم يتمكنوا من تجديد مدلولات مفردات القرآن الكريم تحديداً دقيقاً، ولا حتى في أحسن الأحوال، وان روح العلم الحذرة لم تكد تستوقفهم من اجل مراجعة هذه الظاهرة المهمة، لأن دراسة هذه الظاهرة من أكثر ألوان النشاط غموضاً وتعقيداً، وخاصة عندما نضيف إليها من أنفسنا غموضاً آخر وتعقيداً جديداً، وخاصة أيضا، أننا لا نستطيع التعبير الدقيق عن أفكارنا، فضلاً عن المفردات القرآنية التي تحتاج إلى ادراكات عقلية وحالات شعورية ووجدانية.. ومن أجل ذلك.. تختلط المعاني والتفسيرات، فإذا أراد المرء أن يأخذها بدقة، وجد السبيل أمامه إليها شاقاً..
ولا أبالغ إذا قلت: إن عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية (النظم) قد وجد نفس المشقة التي وجدها السابقون والتي نجدها نحن الآن..
المعنى الذي تعطيه المفردة القرآنية.. يختلف عن المعنى الذي يهتم به الباحث المتأثر بفلسفة الصانع، أو المهتم بالألفاظ المعتادة الجارية في الحديث السوقي، فقد عنّ لكثير من الباحثين أن القرآن الكريم يستخدم الألفاظ والتراكيب التي يستخدمها العرب في ألفاظهم وتراكيبهم، وان لغة القرآن تجري في ظاهر الأمر على نفس النسق الذي يصطنعه العرب في كلامهم.. ونحن نقول: إن هذا الكلام مردود، حيث أن المفردة القرآنية، تأخذ من جلال القرآن الكريم صورة ومعنى أروع وانضر من ألفاظ العرب وكلامهم، وكأن هناك جهداً خاصاً يجعل معنى المفردة القرآنية، يختلف ولو في درجته عن معنى التركيب المناظر له في اللفظة البشرية، لأن القرآن يفرق بدقة متناهية بين معاني ألفاظه في ظل العرض الذي يقصد إليه..
إن هذا القول يجرني إلى الاعتقاد، بأن الترابط بين مفردات القرآن لم يُدرس دراسة مفصلة حتى الآن، ولذلك ظلت الصورة الدقيقة لمعنى المفردة القرآنية غير واضحة المعالم في أذهان الباحثين والنقاد، وكأنّ معنى المفردة القرآنية يُبحث بحثاً مجملاً، ونحن في أمس الحاجة إلى بحث أكثر تفصيلاً في هذا المقام.
إنّ للقرآن طريقته المفضلة في تأليف المفردات وربطها وتنظيمها، وإذا غيرت هذا الترتيب وهذا النظام تغير المعنى، وخرجت من القرآن إلى غير القرآن، ومن الجيد إلى الرديء.
أن اللغويين والنحاة ليسوا أصحاب بصر بمفردات القرآن الكريم، لأنهم لا يعنون بالتراكيب عناية محمودة، ولا يعنون بسائر الهيئات التي يستحقها التأليف ويقتضيها الغرض الذي يقصد إليه القرآن الكريم، وعبثاً نستطيع أن نستوعب هذه المعنى من خلال القرآن، لأن معاني المفردات القرآنية لا يمكن أن تحصر تماماً.
أن اللغويين والنحاة مولعون بحصر النشاط اللغوي في قواعد تُحفظ وتطبق، ولكننا... يخالطنا الشك في هذا المنهج بالقياس إلى مفردات القرآن، لأننا باستمرار أمام وحدات أو تنظيمات جديدة وإن كانت أزلية في مفرداتها.
وليس لهذه الجدّة نهاية.. لذلك.. يجب أن نُعدل المنهج الذي قدمه النقاد لمعاني التراكيب في المفردات القرآنية كثيرا من أجل كشف الوحدة الجديدة التي نواجهها باستمرار..
من هذا المنطلق.. علينا أن نعيد قراءة القرآن في ضوء فكرة تنظيم المفردات القرآنية، وإذ ذاك القرآن البسيط على حد تفكيرنا متسماً بالمزية، لأن للقرآن الكريم علاقة بالحياة التي نعيشها ونحياها، رغم أن بعض الباحثين والمفسرين قد برعوا أحياناً في تحليل معاني بعض المفردات القرآنية..
وكشفوا بعض دقائق معانيها، ولكنهم لم يصلوا إلى نتائج واضحة من تكيف تلك المفردات وتفاعلها وارتباط بعضها ببعض..
إن مثل هذا الوضع كافٍ لإثارة موضوع المفردات القرآنية، وخاصة أن المفردة في القرآن الكريم إذا جُمعت بجانب مفردة قرآنية أخرى، تكون من أكثر المسائل صعوبة في المعنى أعلاها قدراً..
لذلك.. شاعت نظرية (النظم) شيوعاً كبيراً وجعلها غير واحد من الباحثين عنوان البحث (في المفردة القرآنية) أو (في العبارة القرآنية) ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر..
((الجرجاني ، والباقلاني ، والرماني ، والخطابي ، والواسطي ، والجاحظ ، وابن الإخشيد)).. وغيرهم ، فهم قد حاولوا البحث عن روعة المفردة في القرآن وعن روعة العبارة القرآنية، ولكنهم لم يتعدوا جميعاً المظهر الخارجي لوجود منطقة هامة، لا تصل حتى إلى قاسم مشترك بين معاني القرآن والمفهوم الإنساني، لأن المعنى في القرآن كان لا يتغير ولا يتبدل، ولكن موقعه من النفس هو الذي تغير فحسب..
من ذلك فقد ظن هؤلاء الكتّاب وغيرهم بأنهم قد أقاموا بناءاً نظرياً شامخاً عن مفهوم نظرية (النظم) في معاني القرآن، لأنهم اعتقدوا ان معاني المفردات في القرآن من متناول عقولهم.. وهذا صعب المنال..
قد بتر الباحثون قضية ترابط المفردات في القرآن بحجة التمسك بحرفية معنى الإعجاز، وهم قد اغفلوا مدى تفوق المفردة القرآنية والعبارة القرآنية في غيرها من الألفاظ والعبارات البشرية، وحملوها النظريات التي طبقوها على الألفاظ والعبارات البشرية، لدرجة انك لو سألت أين (دلائل الإعجاز) والكتب الأخرى التي كُتبت عن أعجاز القرآن لما كنت مسرفاً في ذلك.. أنا لست معنياً في أن انقص من عمل السابقين واللاحقين، واهدم دورهم في نظرية (النظم) في القرآن، ولكن أقول: إنهم لم يستطيعوا ان يفرقوا بين فلسفة القرآن في نظرية النظم وبين فلسفة اللغة وترابط ألفاظها، لأنهم حكموا بينها بنفس الروابط والموزونات والقرآن منزه عن هذه الروابط والمقاييس والموزونات وحاشاه من ذلك..
لقد تعامل الباحثون والنقاد مع معاني القرآن الكريم بمفهوم عبارة الجاحظ المشهورة المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي واعتبروا مفردات القرآن رموزاً صوتية دالة على معان مطروحة في الطريق يعرفها الجميع على اختلاف مفاهيمهم ونسوا ان مفردات القرآن هي علم اليقين وفيصل الرأي، وهي ثابتة في كيانها، وتعددها لا يعني اختلافها، وكل ما ميزوا به القرآن الكريم عن كلام العرب هو بعض العبارات المرموقة التي تتردد على ألسنة الباحثين والنقاد، والتي يستشهدون بها على إعجاز القرآن أمثال: إن القرآن جاء بأفصح الألفاظ في احسن أنظمة تأليف).. وقولهم: (اللفظة القرآنية هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ)..
وقولهم (إن القرآن قد جمع أشتات الألفاظ , فانتظمت واتسقت بطريقة تعجز عنها قوى البشر.. وهكذا دواليك..
وهذا لا يكفي لتفسير مفردات القرآن الكريم وتعريف معانيها لأن الإفهام في معنى المفردة القرآنية، يجب أن يكون إفهاماً مؤثراً..
وهناك كذلك العبارة التي رددها النقاد كثيراً «المعنى مكشوف» وهي ترديد لعبارة الجاحظ «المعاني مطروحة في الطريق» وما حفظُها من خط عبارة الجاحظ.. لأنها تترجم في نهاية المطاف إلى أن مفردات القرآن تتجمع على حسن التأليف وروعة اللفظ، فتزيد المعنى المكشوف بهاءً ورونقاً، ونحن نطلب تعريفاً أعم من ذلك وأجل، لأن مفردات القرآن من صفاتها المشمول والثبات والتفصيل والحقائق، وليس كذلك كلام العرب من قريب ولا من بعيد..
لذلك.. ينأى القرآن بنفسه عن عبارة القائل: "إن اللفظ الحسن كالثوب الحسن، واللفظ القبيح كالثوب القبيح، وإن الألفاظ تحسن المعاني كما يحسن الثوب لابسه".
المفردات في القرآن الكريم ليست قوالب تنسكب فيها المعاني على رأي النقاد، فالقوالب جامدة، ومفردات القرآن الكريم في حركته مستمرة تتجاوب مع حركة الكون والوجود كله..
فنحن نعجز عن فهم أي شيء أو تفسير حقيقة من حقائق الوجود ما لم نتصل بالمفردة القرآنية من خلال تفصيلها في آيتها، لأن هذه المفردة من خلال سياقها تقدم لنا احتمالات التذكر في وعينا الإنساني حتى ترشدنا إلى الحقيقة العميقة التي نريدها..
إن كنا نصبو إلى هذا المراد الصعب المنال، فكيف نقبل على القرآن عبارة قدامة بن جعفر الناقد المشهور «أن النجار يصنع كرسياً جميلاً من خشب رديء. تظل ترى أو تميز جمال الكرسي ورداءة الخشب».. هل نستطيع ان نخضع مفردات القرآن الكريم وعباراته لمعيار النقد من خلال عبارة قدامة بن جعفر!!.
هذه عبارة جوفاء، ومفردات القرآن لها أبعاد عميقة وأزلية، وأبعاد مستقبلية خارجة عن إرادتنا، لأن ماهية المفردات القرآنية لا تنفصل عن ماهية معنى القرآن، فهي متحققة في المفردة القرآنية حساً ومعنى، والوصول إلى هذه الماهية أمر شائك، وهو محجوب عنا لسبب لا نعلمه، لأننا نبحث عن الحقيقة الثابتة التي قد تختلف عن الحقائق الثابتة، والتي تتكرر في دنيانا كل لحظة..
إن مفهوم مفردات القرآن الكريم يحتاج إلى مراجعات كثيرة.. والمعنى الذي اهتم به المتقدمون والمتأخرون معنى راكد خامل، خال من الهزة العاطفية والقدرة التأويلية الصحيحة والثبات المطلق في كثير من الأحيان، لأننا نشعر أننا دائماً أمام مفردات قرآنية في حركة أو ذبذبة أو تجدد مستمر، لأن القرآن الكريم هو الحياة، والحياة دائماً في حركة مستمرة وفي تجدد مستمر، ومبدأ الحياة يتجدد في كل لمحة بتجدد معاني مفردات القرآن الكريم..
المفسرون والنقاد يتحدثون في كثير من الأحيان في معاني مفردات القرآن من خلال القرآن، عن مدركات عقلية وخيالية قد تتصل إلى الوهم في بعض الأحيان معتقدين أن هذه المدركات نوع من التأليف بين مفردات القرآن والقرآن..
ونحن لا يمكن أن نطمئن إلى هذه المفردات، لأن النقاد والمفسرين في هذه الحالة يخضعون النص القرآني للموازين النقدية التي اخضعوا لها النص الأدبي، والقدرات البشرية عاجزة دون تطورات معنى المفردة القرآنية، لأنها تتميز جوهرياً عن النشاط الخيالي الكامن في ألفاظ لغة العرب، وأن السبيل إلى هذا التمييز الجوهري غير معبد وبعيد المنال، ومن واجبنا ان نخوضه في صبر وأناء، إذا حرصنا أن نفهم القرآن على حقيقته..
علماء اللغة أجادوا في تفسير المعنى اللغوي لمفردات القرآن الكريم، ولكنهم وقفوا عاجزين عن تفسير المعنى الاصطلاحي السياقي لها، والسبب في ذلك أن مفردات القرآن الكريم ليست مجرد مجموعة من الأفكار والتعاليم كما يبدو للعيان، وإنما هي ماء الحياة، وهي الموازين التي توزن بها قوانين الوجود كله المعلومة والمجهولة، لذلك يجب أن نشكك دائماً في أننا قد عرفنا المضامين والمدلولات الحقيقية لتلك المفردات، لأننا في الدراسات العقلية، ـ دراستنا ـ يمكننا أن نقبل تلك على مضض، لأن في أذهاننا المفاهيم العامة لمعظم الألفاظ التي يستخدمها العرب، أما مفردات القرآن الكريم، فهي رموز لأشياء كلية هامة لا تخص الإنسان وحده، ولها ارتباط بالوجود كله، ونحن جزء من الوجود، ويستحيل على الجزء ان يستوعب الكل..
ألفاظنا كبشر غير ثابتة، ولا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة دون اختلاف فيها، لذلك فإنتاجنا غير ثابت ويسوده الاختلاف والتناقض..
إن كل مفردة من مفردات القرآن الكريم تخضع لتفصيل خاص، حتى تشعر بذاتها شعوراً قوياً، لأن تفصيلها متصل بتفصيل الوجود، ومتصل بتفصيل المشاهدة وتفصيل الغيب..
المفردة القرآنية تعطينا باستمرار معرفة متجددة حيث تثبت رؤيتنا باليقين الثابت، فتصل إلى الحقيقة الثابتة دون لبس أو اختلاف.. من هذا نستنتج.. أن مفردات القرآن الكريم جاءت خصيصاً لتتصل بالمعرفة الإنسانية المحدودة، لتعطيها القدرة على الاتفاق، وإلا بقي الإنسان في مهب الريح كافراً، لا يعرف الاتفاق ولا الثبات ببيان الحقيقة وتفصيلها وتثبيتها وتوحيد صلاتنا بها..
وعلى النقيض من ذلك، ألفاظنا البشرية التي لا تفصيل فيها ولا اتصال بينها، وليس بينها اتفاق ولا ثبات ولا حقائق، لأنها منقطعة، ويتعدد مواقع القول فيها، وتختلف آراءنا فيها من واحد إلى آخر، ومن وقت إلى آخر..
لذلك يستحيل البتة أن تتوحد المفاهيم الإنسانية إلا بتحقيق الاتصال الثابت من خلال الاتصال بتفصيل المفردات القرآنية، وبذلك تزداد مفاهيمنا رسوخاً وظهوراً كلما ازدادت صلاتنا بالقرآن الكريم.. ان مفردات القرآن الكريم جعلتنا نستطيع أن ندرك أننا في معادلة محلولة ومنطقية، ما دامت تتحقق لنا القدرة التي تتجلى في معرفة الاتفاق والثبات والاتصال والتفصيل، رغم أننا نتعدد ونختلف ولا نعرف الثبات والاتفاق واليقين، لأننا من المخلوقين الحادثين الذين لا يتوافر لديهم علي الإرادة، ولأننا من ضمن محتويات المادة..
إن مفردات القرآن الكريم تثبت العلاقات بين مسيرة الإنسان ومسيرة الوجود من حوله، لتحقيق المنافع ودرء المفاسد، وليعرف الإنسان معنى الثبات واليقين في حياته..
مفردات القرآن الكريم حقائق ثابتة، لأنها لا تنطلق من الفروض كعلوم البشر، والتي يستحيل أن تتحول إلى حقائق إلا إذا اتصلت بأسس الثبات وهي المفردة القرآنية.. إنها علم الثبات والحركة الشاملة للوجود كله..
مفردات القرآن الكريم لا تعرف السلب من الإيجاب، لأنها وجدت لتوفق بين المختلفات، لأنها هي الحياة التي أفرزت التعادل في هذا الوجود، وهي ليست ضمن محتويات الحياة، ولكنها تفسير للحياة، وبدونها لا تفسير للحياة والوجود..
والآن: وبعد هذا العرض الواسع، يطرح السؤال نفسه: هل تتكرر مفردات القرآن؟ وهل هناك ترادف وإطناب وتوكيد لفظي بين مفردات القرآن؟ وهل المفردة القرآنية تتكرر وهي تعدد مواقعها في آياتها في القرآن الكريم؟
البحث في مشكلات هذه الدلالات في الدراسات القرآنية، وهو متفوق في دراسات متعددة ولا تحصى، واللغويون والمفسرون والنقاد أوجدوا إشباعا كثيراً في هذه المباحث وما إليها، ولكنهم وللأسف لم يحفلوا بتحديد مدلولات المفردة القرآنية تحديداً مريحاً، لأنهم عجزوا عن رصد تلك الأبعاد وإنجاز ذلك العمل متكاملاً، ولأنهم لا يعتمدون على نتائج إحصائية، وإنما يعتمدون على نتائج قياسية، وإنهم يستشهدون على صدق المفردات القرآنية بقول آخر ليس من جنسها، ولا من مستواها، ومن حيث قطيعة الدلالة ونهايتها المطلقة إنهم يستشهدون بقول البشر، وفي هذا يتجلى الخطأ الإعتقادي والخطأ المنهجي، وهذا لا يفسر كل بواعث الاهتمام الشديد بفكرة تنظيم المفردات القرآنية..
إننا نشكك تماماً في أننا نستطيع أن نعرف المضامين أو المدلولات الحقيقية لمفردات القرآن الكريم، لأن الدراسات القرآنية تخالف الدراسات العقلية التي يمكننا من خلالها أن نقبل على النص العادي وفي أذهاننا المفاهيم العامة لمعظم الألفاظ التي يستخدمها الكاتب..
لذا.. فإن فكرة معنى المفردة القرآنية من حيث التكرار والترادف والإطناب والتوكيد اللفظي وجميع باقي المصطلحات التي طرحت في هذا الصدد، في غاية الصعوبة، على عكس ما تصوره القدماء والمحدثون، لأنهم لم يستطيعوا تجاوز حدود تلك المفردات إلى ما نسميه «الإطار» أو «السياق» في النقد، ولأنهم عجزوا ببساطة على الإحاطة بكل المفاهيم والارتباطات الهامة التي يتشعب منها ذاك الإطار أو السياق، وخاصة أن المصطلحات البشرية، لا ثبات لها، لأنه ليس لها أسس التقاء ثابتة بالقرآن الكريم..
ورغم هذا القول.. فقد اختلف اللغويون والمفسرون والنقاد في مفهوم تلك المصطلحات، فبعضهم أقر بها ودافع عنها، واعتقد ان التكرار في المفردة القرآنية، جاء لزيادة المعنى المراد من البلاغة، وجاء لدوافع أخرى يتطلبها المقام، وكذلك جعلوا التكرار نوعاً من أنواع الإطناب، لاعتقادهم أن التكرار ابلغ لفظاً وأوقع اثراً في نفس المخاطب ووجدانه..
وكذلك جعلوا التوكيد اللفظي نوعاً من أنواع التكرار اللفظي لتكرار المعنى، وهو الكثير الشائع في القرآن الكريم حسب اعتقادهم، لأنه جاء بقصد التوكيد اللفظي..
كذلك.. هناك من جعل الترادف مظهر ثراء في اللغة، فهو حشد لغوي تترادف في المفردات القرآنية وتتوالى على المعنى الواحد، وعدّوا الترادف ظاهرة لغوية عامة تشترك فيها اللغات الحية، لأن هذا القول يخصب أفكارهم ويغني بيانهم ويضيف الجديد إلى اتجاهاتهم..
أما البعض الآخر.. فقد أنكر التكرار في المفردة القرآنية، وجعلوه عيباً كبيراً يسيء للقرآن، لأنه مستغنى عنه وغير مستفاد به، وهو زيادة في المعنى، وفضل من القول، ولغو في الكلام، وخاصة عندما ينظرون إلى مفردات القرآن الكريم من خلال نسقها ومقاماتها ولم ينظروا إليها نظرة إفراد من خلال نظمها بين المفردات الأخرى..
ان الطابع البلاغي والفلسفي والنقدي عند الطرفين، هو الذي اتضح في دراسة معنى المفردة القرآنية، فالماهية أو الجوهر لمفهوم المفردة القرآنية عند الطرفين يفسر بالإدراك العقلي المحض، ونسي الطرفان ان ماهية المفردة القرآنية وجوهرها يحتاج إلى عناء وكشف، لأن المفردة القرآنية، لا نستطيع ان نخضعها للإحصاء، أو نحيط بها الاستقصاء، لأن الإحصاء أو الاستقصاء فوق طموحات الاستطاعة أو حدود الإمكان..
الأستاذ محمد العفيفي مع المفردة القرآنية
والآن: عنّ لنا جديد، بوجود كاتب إسلامي مشهور هو الأستاذ محمد العفيفي، من خلال كتابيه «القرآن ودعوة الحق» و«القرآن تفسير الكون والحياة»، والكاتب ذو باع طويل في مدرسة القرآن الكريم.. ومن قرأ كتابيه، تصور ان كاتبنا قد وصل إلى سر التفسير، وكشف الحجب عن التأويل.. الكاتب أعطى بعداً جديداً لمفهوم المفردة القرآنية عندما قال: «فإن كل كلمة في القرآن تعطيك مع اتصالها فصلاً خاصاً بها وحدها، لا يتكرر في القرآن كله بعد»(1).
وعندما قال: «وحسبنا معاً أن نقول الآن: إن تفصيل القرآن هو التطابق المطلق بين مواقع الكلمة القرآنية مهما تتعدد مواقعها، وبين عدد الحقائق التي تقدمها مواقع كل كلمة قرآنية.. فعدد مواقع كل كلمة قرآنية، هو نفسه عدد حقائقها»(2).
وكذلك قال الكاتب: «كلما تدبرنا أي كلمة قرآنية متعددة المواقع، في موقع جديد من مواقعها فإن تعداد المواقع إنما هو تحقيق الاستجابة لحاجاتنا إليه»(3).
وقال أيضاً: «إن تعدد مرات ورود أي كلمة في القرآن، دليل على ثبات هذه الكلمة، وحاجتنا نحن المخلوقين، إلى عدد من الحاجات، قدرها الخالق سبحانه تقديراً، فجاءت في كتابه العزيز، آية قرآنية مفصلة، تفي بهذه الحاجات، على مستويات الفكر الإنساني والعمل الإنساني كما وصلهما الله بالحياة»(4).
وقال: «عندما نجد الكلمة قد جاءت في القرآن مرة واحدة، فالحياة كلها، على امتدادها، والوجود كله على امتداده، لا يمكن أن يكون أيهما بحاجة إلى كلمة أخرى، ما دامت الكلمة القرآنية قد «أحكمت» فجاءت موفية بالحاجة حيث لا يحتاج لغير هذه الكلمة القرآنية الواحدة أبداً.. أما إذا كانت هناك حاجتان اثنتان لا ثالث لهما، فلا بد أن لهاتين الحاجتين، كلمتين مفصلتين، وإن كانت صيغتهما القولية واحدة»(5).
وقال: «فالكلمة القرآنية مهما تعددت مواقعها فقد أتت مرة واحدة، والحاجات هي التي تكررت، بدليل أن القرآن، ليس به أي إضافة عددية لكلمة من كلماته، دون حاجة حقيقية يأتي ذكرها مفصلا ومحكماً لا مكان معه لتكرارنا لكلامنا العادي»(6).
وأخيراً قال: «.. النظر في كلمات القرآن، على أساس البعد العددي لمواقع كل كلمة في سائر الآيات التي جاءت فيها الكلمة القرآنية، فإذا وعينا هذه المواقع تفصيلاً وتوصيلاً، فقد وعينا عدد الحقائق السماوية لها تفصيلاً وتوصيلاً»(7).
لقد طلع علينا الكاتب بمصطلحات ومفاهيم مألوفة لدينا، ولهج بها المفسرون والنقاد على مر الأيام والدهور، ولكن الكاتب استطاع بحق أن يوظف هذه المصطلحات والمفاهيم توظيفاً خاصاً ومقبولاً، من الناحية النظرية فقط في عمل ما نستطيع أن نطلق عليه «نظرية التفصيل والتوصيل للمفردة القرآنية» والتي استوحاها الكاتب حسب اعتقادي من ترتيب «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.. حيث ربط الله سبحانه وتعالى على حد نظرية الكاتب، كل مفردة قرآنية مع جنسها من المفردات الأخرى، وجعل منها شخصية واحدة مرتبطة بذاتها، هي شخصية القرآن الكريم عند طريق نظرية «التفصيل والتوصيل» أما المصطلحات والمفاهيم التي كون منها الكاتب نظريته ـ إن سمح لنا الكاتب بذلك ـ فهي.. «الاتفاق» ـ «الثبات» ـ «الحقيقة» ـ «التفصيل» ـ «التوصيل» ـ «الحقائق الثابتة» ـ «علم الثبات» ـ الحركة الشاملة» ـ «ماء الحياة» ـ وغيرها من المصطلحات التي هي مشاع للجميع وليست حكراً على أحد..
ولتوضيح هذه النظرية على حد قول الكاتب، ـ فالكاتب ـ جعل كل مفردة قرآنية مدخلاً لفصل قائم بذاته، ولكنه متصل بالسياق القرآني، على نحو يضمن أن لا يتكرر «التفصيل والتوصيل» إذا توالت صلاتنا بالمفردة نفسها في كل موقع من مواقعها الأخرى..
الأستاذ محمد العفيفي من خلال ما نستطيع أن نطلق عليه نظرية «التفصيل والتوصيل للمفردة القرآنية» ينفي الاختلاف، ونفي الاختلاف في نظره معناه نفي التكرار، ونفي التكرار معناه نفي القرآن الكريم حقيقة ظاهرة مقترنة بالتفصيل والتوصيل القرآني على حد قوله.. لذلك.. فإن تعدد المواقع للمفردة القرآنية، كلها مفصلة ومتصلة لنفي التكرار والاختلاف، لأن كل آية في القرآن الكريم في غير متشابهة إذا اتصلنا بها عن طريق المفردة القرآنية ذات المواقع المتعددة في القرآن الكريم كله، وبذلك يكون اتصالنا بكل آية في تدبرنا لها، لا بد ان يكون بعدد مفردات كل آية، أي بعبارة أخرى، يجب ان نتدبر كل مفردة قرآنية من خلال اتصالها بمواقعها وعلاقاتها في القرآن كله..
من هذا كله نفهم ان الكاتب جعل المفردة القرآنية مفصّلة ومتصّلة في ذاتها، على أساس الثبات في صيغتها القولية، أي ان كل مفردة قرآنية بكل موقع من مواقعها في القرآن كله، والصلة لنا بثبات كل مفردة في ذاتها من جهة ومفصلة لنا السياق الذي يصل كل مفردة بالمعرفة التي نحصل عليها في كل موقع قرآني من الجهة الأخرى، على نحو يضمن لنا ان لا تُكرر هذه المعرفة إذا توالت صلاتنا بتكرار المفردة نفسها في كل موقع من مواقعها..
الكاتب: يريد ان يصل إلى حقيقة وهي: ان وجودنا المادي متصل بمفردات القرآن وتفصيلها، لان هذا الوجود خاضع لله سبحانه وتعالى خضوع عبودية، وتفصيل مفردات القرآن التي لا تتكرر في نظره خاضع لصلاتنا بعبوديتـها رغم أننا نتعدد ونختلف ونتكرر، ولكن الحقيقة واحدة أبدا وثابتة لا تتغير أبدا..
وخلاصة القول فيما يقوله الكاتب: ان كل مفردة من مفردات القرآن مهيمنة على مفهوم خاص من مفاهيم الكون ومفاهيم وجودنا في الحياة، سواء كانت هذه المفاهيم محسوسة أو ما وراء الغيب، أي بعبارة ثانية: ان أي مفردة قرآنية تكون دالة على حقيقة من حقائق تفصيل الوجود وتوصيله حولنا.. لذلك فحقائق مفردات القرآن، متعددة بعدد حاجات مخلوقاته، وهي حاجات كثيرة ومختلفة، تحكمها تلك الحقائق وتهيمن عليها لأنها لا تتغير ولا تختلف، ومعنى لا تتغير ولا تختلف، أي لا تنكرر قاعدة الحقيقة فيها أبداً، فالتغير والاختلاف يكونان في تفصيل المخلوقات وتوصيلها، لان مادتها مفصلة في توصيلات متغيرة ومتكاثرة، وخاصة ان سنة الله في خلقه هي إثبات، على حين مخلوقاته في تغير دائم، لا تلك المخلوقات ليست حقائق ثابتة..
وقد حاول الكاتب ان يطبق هذه المفاهيم التي طرحناها آنفاً تطبيقياً علمياً من خلال مفردات القرآن الكريم، بكل موقع من مواقعها كله، على نحو يضمن ان لا يتكرر معنى المفردة القرآنية إذا توالت صلاتنا بالمفردة القرآنية نفسها في كل موقع من مواقعها المتعددة..
لذلك.. قسم الكاتب المفردة القرآنية إلى قسمين:
القسم الأول: المفردة القرآنية الفذة..
القسم الثاني: المفردة القرآنية المتعددة المواقع..
القسم الأول: المفردة القرآنية الفذة
يقول الكاتب: (فإن كانت أي كلمة قرآنية «فذة» من حيث الموقع فموقعها في القرآن كله موقع واحد، فهذا دليل أبدي، على أن الحياة كلها، لا تحتاج غير هذا الحكم القاطع ، الذي تتجلى تفصيلاته في وقائع الحياة المختلفة، التي يوجدها، ويلم شعثها هذا الحكم القرآني الواحد..)(8).
ويقول أيضاً: (عندما نجد الكلمة، قد جاءت في القرآن مرة واحدة، فالحياة كلها، على امتدادها والوجود كله على امتداده، لا يمكن أن يكون أيهما بحاجة إلى كلمة أخرى، ما دامت الكلمة القرآنية قد «أحكمت» فجاءت موفقة بالحاجة حيث لا يحتاج لغير هذه الكلمة القرآنية الواحدة أبداً..)(9).
لقد طبق الكاتب هذا القول على نماذج من مفردات القرآن الكريم «الفذة» ولنقتبس من هذه المضامين بعض الأمثلة لا على سبيل الحصر والاستقصاء ولكن على سبيل التمثيل: يقول الكاتب (.. ويتصل بذلك قولنا.. إن الله تعالى «أحد» كان جديراً أن نراه وحده، في موقع خاص به في «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن» لأن الاثنتين والثلاثين مرة، قد جاءت كلها منفية، أو متصلة بالتفرق بين الأغيار، فهي من شأن المخلوقين، وكلمة «أحد» كما هي في قوله تعالى: (قل هو الله أحد)(10) هي المرة «الفذة»، ذات الحقيقة الإلهية المتصلة باسمه تعالى «أحد». وليس هذا نقداً ولكنه طموح إلى أن ييسر الله، عمل موسوعة قرآنية تلبي حاجات المتدبرين قد يكون أسمها مثلاُ «موسوعة تفصيل كلمات القرآن»... ومن «الإفراد» أن تكون الكلمة مفردة في ذاتها.. وكلمة «أحد» فيها أيضاً قضية التعريف أو غيره، وليس عدم وجود «ألف لام» التعريف في اسمه تعالى «أحد» مما يفيد التنكير، كما هو الشأن في الكلمات الخاصة بالمخلوقين.. إن كل شيء معرف بعبادته، لخالقه سبحانه.. ونحن نجد في «سورة الإخلاص»، عدم حاجة اسمه تعالى «أحد» إلى لام التعريف؛ لأنه سبحانه وتعالى، وحده، هو «أحد».. إن كلمة «أحد» جاءت مرة واحدة، إلا إذا نظرنا بوعي ثاقب، نجد أن المرات الاثنتين والثلاثين، اللاتي جئن بكلمة «أحد»، قد جئن كلهن تابعات لسلب، أو تمزق بين الأغيار أو غير ذلك، مما يفصل أحوال نقص المخلوقين، ليتجلى لوعينا كمال الخالق وحده.. فالمخلوقات هذه المرة، هي الحياة نفسها، هي التي أدت بوقائعها المادية، ما أدته كلمة «أحد» إذ جاءت اثنتين وثلاثين مرة، تفصل أحوال نقص المخلوقين.. وبذلك يقدم لنا القرآن العظيم في «سورة الإخلاص» كل ما نطيق فهمه من كمال الخالق ونبوءُ بِاصره من نقص المخلوقين ما لم يتكملوا بتمام وعيهم، بعبادتهم لله وحده..
«ذلك كله يبين لنا عمق الصلة، بين حكم القرآن وهيمنته، بين حاجات الحياة باعتبارها وقائع خاضعة لحكم القرآن»(11).
ويقول أيضا في المفردة القرآنية «الفذة»: ـ عن عدم الشرك: ومن تفصيل قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)(12). يتبين لنا أن التفصيل الظاهر في قوله تعالى «كمثله» ذو موقع واحد في القرآن كله، كما هو في صيغته هذه ذاتها «كمثله».. ذلك إننا بحاجة إلى أن يعلمنا قوله تعالى «كمثله» نفي التمثيل في إفهامنا، لأن كل تمثيل للأغيار، بالله تعالى، إنما هو تمثيل وهمي في العقول الإنسانية، تنفيه «ليس» كما هي سابقة لكاف التشبيه في «كمثله».
كما أننا بحاجة إلى أن يعلمنا قوله تعالى «كمثله» نفي الأمثال أو الأنداد، الذين يدعيهم المبطلون في الأشياء.. وهذا متحقق بقوله تعالى «مثله» بعد «ليس» وبعد كاف التشبيه. فحصيلة ذلك كله أن قوله تعالى «ليس كمثله شيء» نفي بحق للتشبيه والأشباه معاً، في موقع قرآني وحد نفيت فيه الأوهام جميعاً، «ويبقي الحق سبحانه وحده لا شريك له»..(13).
الكاتب من خلال قوله.. لا يوفق وللأسف في تفسير ظاهرتي التوحيد وعدم الشك، بناءً على وصفه للمفردة القرآنية «الفذة»، فهو لم يوفق في تفسيره للحاجة، حيث لا يحتاج لغير المفردة القرآنية الواحدة أبداً، على حد قوله، وإنما كان يدور حول معانٍ كلية تخص الوحدانية وعدم الشرك بالله فقط.
إن الوحدانية وعدم الشرك لا يحتاجان إلى أي تفسير على أي مستوى من المستويات، ولذلك.. لا فضل للكاتب في تفسيره لهاتين الظاهرتين، لأن الوحدانية وعدم الشرك، من البديهيات التي فطر عليها المخلوق والتي رضعناها مع لبن الأمهات في المهد، ولذلك كشف الله عنهما الحجاب لسر أودعه في مخلوقاته.. ومن هنا يجوز لنا أن نقول: إن هذا يدلنا على أن حقيقة أحديته وعدم الشرك به، حقيقة واحدة، ومن لك فنحن بحاجة إلى مفردة «فذة» إن صح لنا هذا القول، للعلم بهذه الحقيقة الواحدة..
وكذلك المفردة القرآنية «الصمد» وكل مفردة قرآنية تخص الوحدانية وعدم الشرك، هي من جنس المفردة القرآنية «أحد» والمفردة القرآنية «ليس كمثله» لأن تفصيل هذه المفردات متصل بتفصيل العلاقة بين الخالق والمخلوق ـ وهي علامة مكشوفة جداً، بصلات الرؤية والبصر أو بصلات ما وراء الرؤية وهي البصيرة والغيب.. أن الوحدانية وعدم الشرك بالله، يقين ثابت، لأن الحقيقة ثابتة، والحقيقة هي المفردة القرآنية واليقين في الحياة اليومية، أما بقية المفردات القرآنية والتي لا تخص الوحدانية وعدم الشرك بالله، سواء أكانت مفردة قرآنية «فذة» أو «مفردة قرآنية ذات مواقع متعددة»، فتحتاج في تفسيرها إلى علم الله المحيط الشامل الذي لا يند عنه مثقال ذرة في الزمان ولا في المكان.. في الأرض ولا في السماء.. في البر ولا في البحر.. في جوف الأرض ولا في طبقات الجو.. في الرطب واليابس.. في الحي والجامد.. في الظاهر والخفي.. في الكبير والصغير.. في القليل والكثير.. في المنظور وغير المنظور.. في المجهول والمعلوم.. في البعيد والقريب، في الماضي والحاضر والمستقبل.. في إحداث الحياة وتصورات الوجدان.. في كل ما يتخيله العقل ومالا يتخيله.. في الآماد والآفاق والأغوار والأسبار والاستواء والسعة والشمول.. في عالم الغيب المحجوب.. في السقوط والعلو.. في الاندثار والبقاء.. في البزوغ والنماء والكمون والسكون.. في الازدهار والذبول.. في كل شيء على الإطلاق، نعده أو لا نعده، نتخيله أو لا نتخيله يكمن في هذه الطبيعة الصائتة أو الصامتة أو لا يكمن.. (وما يعزب عن ربك من مثال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)(14).
(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)(15)، (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور)(16)، (يا بني إن تلك مثال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير)(17).
هذه الحقائق يقف الكاتب عاجزاً ومكتوف اليدين أمامها، لأنه مخلوق حادث، ولذلك: فألفاظه قابلة للتغير نتيجة لاختلاف النتائج التي قد يصل إليها، لأن هذه الألفاظ لم تكن من جنس مفردات القرآن، ولا يجوز أن يستشهد على صدق مفردات القرآن بقول آخر إلا من جنسها ومن مستواها، من حيث قطيعة الدلالة ونهائيتها المطلقة، لأن ألفاظ البشر حادثة وليس أزلية كمفردات القرآن الكريم..
وأخذ مثالاً من أمثلة الكاتب على المفردة القرآنية (الفذة):
يقول الكاتب: (أما إذا تدبرنا كلمة قرآنية مثل قوله تعالى «قِطَع» أو كلمة مثل قوله تعالى «متجاورات» فإن كلاً من الكلمتين قد جاءت في موقع واحد في القرآن كله هو موقع كل منهما بالآية الرابعة من سورة الرعد.. (وفي الأرض قِطَع متجاورات)(18) فلذلك لأن الأرض كلها واحدة، وإنما أراد الله تعالى هنا أن يعلمنا بالتفصيل القرآني، كيف نتصل بالتفصيل، اتصالاً جامعاً لأجزاء الأشياء، حتى نصل إلى اصلها الواحد(19).
الأرض كلها واحدة، وإنما أراد الله تعالى هنا أن يعلمنا بالتفصيل القرآني، كيف نتصل بالتفصيل، اتصالاً جامعاً لأجزاء الأشياء، حتى نصل إلى اصلها الواحد..
ونحن نرد على الكاتب ونقول: أين حاجات الحياة التي أرادها الكاتب من خلال المفردتين الفذتين «قِطَع» و«متجاورات»؟.
أين تفسير التفصيل المطلق الذي أطنب الكاتب في الحديث عنه، وما مدى انطباقه على هاتين المفردتين الفذتين؟..
أين الأحكام اليقينية على حقيقة الحياة وسائر أحوالها التي تحدث عنها الكاتب واكثر؟.
أين القصد العظيم المعجز من وراء «قطع» و «متجاورات» حسب مواصفات الكاتب لهاتين المفردتين الفذتين؟..
أستطيع أن أقول: إن الكاتب وغيره عاجزون بالإجابة عن هذه الاستفسارات، لأنه من البشر الحادث الذي يقف مقيداً أمام جنس القرآن..
القسم الثاني: المفردة القرآنية المتعددة المواقع:
يقول الكاتب «أننا إذا تدبرنا كل كلمة قرآنية بكل موقع من مواقعها في القرآن كله، كانت كل صلة لنا بها في كل موقع من مواقعها، واصلة لنا بثبات كل كلمة في ذاتها من جهة، وواصلة لنا بالسياق الذي يصل كل كلمة بالعلم الذي نحصل عليه، في كل موقع قرآني، وهو علم خاص بكل صلة لنا بكل كلمة في موقعها، على نحو يضمن أن لا يتكرر هذا العلم نفسه، إذا توالت صلاتنا بالكلمة نفسها في كل موقع من مواقعها..(20)، ويقول أيضاً: (.. أما إذا كانت هناك حاجتان اثنتان لا ثالث لهما، فلا بد أن لهاتين الحاجتين كلمتين مفصلتينن، وان كانت صيغتهما القولية واحدة)(21).
وقد حاول الكاتب أن يطبق هذا القول على جميع مفردات القرآن الكريم غير الفذة، والتي لها مواقع متعددة في القرآن كله.. ونحن من جانبنا سنختار نماذج قليلة من اختيار الكاتب للمفردة القرآنية المتعددة المواقع ومنها: يقول الكاتب: (وكلمة مختلف من الكلمات القرآنية التي تدخل في التفصيل، الذي تفتحه لنا كلمة «اختلافا».. فالناحية العددية من التفصيل جعلت كلمة «اختلافا» في موقع واحد، لأن حاجتنا إلى ذلك واحدة)..
والناحية الاشتقاقية، في التفصيل القرآني، جعلت كلمة «اختلافاً» غير كلمة «مختلف» وأساس ذلك حاجة من حاجاتنا البشرية، إلى الخضوع لكل من التفصيل العددي والتفصيل الاشتقاقي.. ولكن كلمة «مختلف» لها ثلاثة أبواب:
أولها: باب مؤدٍ بنا إلى فهم الاختلاف في المنتجات الغذائية.. (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس)(22).
ثانيهما: باب مؤدٍ بنا إلى فهم الاختلاف في دروبنا في الحياة صعوداً وهبوطاً، وطولاً وعرضاً.. (ومن الجبال جدد بيض وحمرٌ مختلف ألوانها..)(23).
ثالثها: باب مؤدٍ بنا إلى فهم الاختلاف، في المخلوقات جميعاً.. (ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك)(24).
وقوله تعالى: «والدواب والأنعام»، نفهم مما نطيق فهمه منه، أن من الدواب ما هو ذرة كما أن منه ما هو خلية، إذ العلاقة بين الأحياء والجمادات متصلة ظاهرة..
وقوله تعالى: (والسماء ذات الحبك، أنكم لفي قول مختلف)(25) بيان لهذا الوصف في المخلوقات، مع ما بينها من فصل وضحته لنا كلمة «مختلف» بمواقها القرآنية..
وقوله تعالى: (أنكم في قول مختلف) نفهم منه عجزنا عن تثبيت مصطلحاتنا البشرية، إلا بالخضوع للقرآن، حيث هذا الخضوع هو ضرورة الضرورات(26).
الكاتب من خلال هذا القول، يصدر أحكاماً جزافية وظنية على حساب قضايا وأحكام كلية ثابتة، وهو يعتقد من خلالها أنها أحكام يقينية بالمفردة القرآنية «مختلف» والمتعددة المواقع في القرآن.. ولكن: أين عظمة القصد من الأعجاز الذي تصوره الكاتب؟
أين البناء القولي للمفردة القرآنية «مختلف» الذي يصفه الكاتب بالثبات والحقيقة المرتبطة بالمفردة القرآنية نفسها؟
أين العلم الذي أوصله لنا الكاتب من خلال السياق للمفردة القرآنية «مختلف» بشرط ان لا يتكرر هذا العلم نفسه، إذا توالت صلاتنا بالمفردة القرآنية نفسها في كل موقع من مواقها..؟
أين الفصول الخاصة التي رسمها الكاتب، والتي أعطتنا إياها المفردة القرآنية «مختلف» من خلال تعددها في مواقعها عند اتصالها بسياقها القرآني..؟
أين العلم اليقيني الثابت والمفصل الذي فسره لنا الكاتب حول المفردة القرآنية «مختلف» من خلال تعددها في وقعها..؟
أين الوفاء بحاجات المخلوقات من خلال المفردة القرآنية «مختلف» من خلال تعددها في مواقعها بشرط أن لا تزيد ولا تنقص..؟
أين هيمنة المفردة القرآنية «مختلف» على جزء من الحقيقة الكونية الثابتة، والتي لا يمكن أن تتكرر أو تتغير، حيث أن حقيقة المفردة القرآنية تنطبق تماماً على حقيقة الظاهرة الكونية..؟
أين احتمالات الحقائق للحياة الثابتة في الوجود التي قدمها الكاتب من خلال المفردة القرآنية «مختلف» بشرط أن عملت المفردة القرآنية «مختلف» عملاً يستحيل البتة أن يشذ عن القواعد والقوانيين الثابتة التي رسمت له، حيث أن مفردات القرآن تستهدف المسيرة الكونية بأكملها، وهي حشد للحياة.
إن التساؤلات فوق طاقة الكاتب وغيره، ولذلك نستطيع ان نعفي الكاتب وجميع المخلوقات من الإجابة عنها، وإلا أفسدنا القرآن، وكنا معولاً رئيساً في هدمه.
الكاتب أثار قضايا قرآنية اكثر من طاقة البشر، وتعجز الإنسانية من مهدها إلى منتهاها عن الخوض في هذه القضايا ومناقشتها..
أنظر ماذا يقول الكاتب عن قضايا لفظ الجلالة «الله».. يقول الكاتب: (.. وهكذا تتفجر ينابيع المعرفة من القرآن، كلما استطعنا التدبر في اسمه تعالى «الله» وقد جاء اسم الجلالة مرفوعاً تسعمائة وثمانون مرة، في تسعمائة وثمانين موقعاً قرآنياً لها تسعمائة وثمانون حقيقة قرآنية، كل حقيقة أكبر من طاقتنا في الفهم والتدبر)(27).
كيف يستطيع الكاتب أن يجد تفسيراً للحقائق القرآنية «التسعمائة والثمانين» والتي فيها حقيقة أكبر من حقائق الكون والوجود بأسراره... إنها حقائق أكبر من طاقتنا في الفهم والتدبر كما يعترف الكاتب نفسه..
كذلك تناول الكاتب حقائق المفردة القرآنية المتعددة المواقع في «الماء» فقال: (ولكننا ننظر في تفصيل كلمة «الماء» في القرآن، فنجدها ذات «تسعة وخمسين» فلذلك تفصيلاً، فذلك لأن الماء ماء واحد، فدلنا الله على تفصيله في الخلق بتفصيله المتعدد المواقع في القرآن، هذا التفصيل المعجز الذي يحقق لكل صلة بكل موقع نجد فيه كلمة ماء، فصلاً خاصاً بذلك من فصول العلم الواحد، الدال على وحدانية الله، وإن تعددت أحوال احتياجنا إليه، فتعددت صلاتنا به، واختلافنا إلى طلبه)(28).
وكذلك يقول عن المفردة القرآنية «الماء»: (إن الماء واحد في ذاته، ولكنه متعدد الأحوال في تفصيل عمله، واختلاف أحواله.. أما فهمنا للارتواء في حقيقته، فهو دال على فعل متصل تفصيلاً، وواصل بين تفاعل مفصل بيننا وبين الماء.. فالفهم دائماً هو الذي يجردنا من أعدادنا ويصلنا بحقيقة واحدة لا تعد هي حقيقة الله تعالى وحده، لا شريك له، خالق كل شيء ومفصل كل شيء)(29).
أين التسع والخمسون حقيقة المهيمنة على كل حاجة من احتياجاتنا كما رآها الكاتب!.
أين التفصيل والتوصيل لمفردة «الماء» المتعدد المواقع في تسع وخمسين معرفة علمية مسيطرة علي الوجود من حولنا..؟
وما الفهم الذي يجردنا من أعدادنا.. على رأي الكاتب.. ويصلنا بحقيقة واحدة لا تعد ولا تحصى، هي حقيقة الله وحده، خالق كل شيء، ومفصل كل شيء.
أين الحقائق التي وضعها لنا الكاتب، عندما جعل التسع والخمسين مفردة قرآنية في «الماء» حقائق ثابتة، وجعل كل حقيقة مسيطرة على جزء من الوجود حولنا..؟
استفسارات متعددة ولا حدود لها تحاصر الكاتب، ما دام يتطرق لموضوع المفردة القرآنية، بهذه التفاسير غير المعللة تعليلاً مقنعاً، ولم يصل إلى حقائق المفردة القرآنية كما نراها ونتعلمها من خلال القرآن..
ولقد أطنب الكاتب في كلامه عن تفسير المفردة القرآنية فقال: (وكذلك الشأن في كلمة «الكاتب» وقد جاءت في القرآن كله، «مائتين وثلاثين» مرة محتويه أحوال هذه الكلمة، سواء كانت مرفوعة أو مجرورة أو ومنصوبة)(30).
وكذلك قال: (وكذلك الشأن في كلمة «آيات» وقد جاءت في القرآن كله، «مائة وثماني وأربعين مرة» وهي في كل مرة همزة وصل بين عملية التذكر الإنساني، وبين كل موقع خاص بها في القرآن، هو في نفسه كمن حقيقة، ذات صلة متفردة بموقعها من القرآن..)(31).
وقال أيضاً ً: (لقد جاءت كلمة «تلك» إحدى وأربعين مرة في القرآن كله.. وهذه كلمة ثابتة في حروفها ونطقها، ولكنها مفتاح لمواقع قرآنية، بعدد مرات ورودها)(32).
وهكذا دواليك.. يسترسل الكاتب في عدة المفردة القرآنية المتعددة المواقع، ويعطيها حقائق ثابتة من عنده دون تعليل أو تفسير لتلك الحقائق الثابتة التي يقصدها..
أين الحقائق الثابتة التي فصلها الكاتب في المفردات القرآنية «الكتاب» و«الحكيم» و«تلك» التي عدّها الكاتب واهتم بعدها، وأعطى حقائق ثابتة بمقدار عدها، وعجز عن الإجابة على تلك الحقائق الثابتة وتفصيلها وتوصيلها..
والآن جاء دورنا لنرد على الكاتب: الكاتب اعتمد في كلامه عن المفردة القرآنية على الفروض الظنية، طلباً للحقائق التالية..
الكاتب عجز عن إصدار الأحكام اليقينية الثابتة المفصلة عن المفردة القرآنية، لأن هذا الأمر فوق طاقة البشر، ولأنّ المفردة القرآنية ليست كلمة تقال وتكتب كأي كلمة بشرية، ولأن كل مفردة من مفردات القرآن لها وقع خاص بها بعيداً، عن الأساليب الخيالية والإيحائية التي يستخدمها الإنسان للتأثير في نفوس سامعيه، لأنها تسمو فوق الخيال والإيحاء البشري الذي يستخدمه للفنون الشعرية والأدبية ويقيس عليه معايير النقد الذاتية غير المعللة في كثير من الأحيان، لأن ألفاظ القرآن كمال بلا نقص، وألفاظ البشر نقص بلا كمال..
مفردات القرآن الكريم ليست أصواتاً أو ذبذبات أو ترددات، تقاس على المادة الكونية والبشرية كما قاسها الكاتب، إن هذا شأن الألفاظ الحادثة التي لا رصيد لها من الواقع، أما مفردات القرآن الكريم، فلها الثبات في كل شيء بعيداً عن الأصوات والذبذبات والترددات..
الله سبحانه وتعالى جاء بالمفردة القرآنية، وأودعها قانونه الثابت الذي يجب أن تؤدي على أساسه الوظيفة التي وجدت من أجلها..
أن الكاتب عندما تناول المفردة القرآنية، وأراد بعد ذلك أن يطبق عليها القانون الذي شرعه، إنما اختار حقائق كيلة معقدة، ونسي أنه بشر عاجز عن تقرير طبية المنهج الذي تسير من خلاله المفردة القرآنية..
والذي دعاني إلى هذا القول.. أنه قد وجدت في الأيام فتنة ببعض النظريات والبحوث والكشوفات العلمية، يحاول أصحابها عن طريقها أن يصلوا إلى حقائق القرآن وأسراره وفك أعجازه عن طريق تلك النظريات والبحوث والكشوفات العلمية، وهذا جد خطير من الناحية الإعتقادية والناحية المنهجية..
المفردة القرآنية قطعية الدلالة، ومطلقة الدلالة، ونهاية في تقرير الحقيقة، ومن ثم لا يجوز أن يستشهد على صدقها بقول آخر ليس من جنسها ولا من مستواها، من حيث قطعية الدلالة المطلقة، وهذا ما عجز عنه الكاتب من خلال نظريته «التفصيل والتوصيل في المفردة القرآنية» عندما أراد أن يطبق عليها عملياً وليس نظرياً..
نظرية الكاتب.. ليست قطعية الدلالة، ولا مطلقة الدلالة، فهي علم ظني في أحسن الأحوال.. فقد تبقى نظرية الكاتب ، ويعتمد عليها في تفسير ظاهرة المفردة القرآنية ـ إن سلم بها الكاتب ووجدت من يناصرها ـ ولكنها تبقى عرضة للتبدل والتغيير والتعديل والإلغاء، فأين نذهب بالمفردة القرآنية والنص القرآني، إذا اعتمدنا على نظرية الكاتب وعلقنا الآمال عليها؟ أين نذهب بالمفردة القرآنية عندما يضاف إلى تلك النظرية جديد..
الكاتب لم يعتمد في نظريته على نتائج إحصائية، وإنما أقام نظريته على احتمالات ظنية بعيدة عن القياس والحقيقة، لأن كل جزء من أجزاء المادة ـ الكون والحياة ـ ليست في يد الكاتب، ولا تحت سلطانه البشري المحدود، وكذلك ليست جميع الظروف والعوارض خاضعة لسلطانه ولا داخلة في علمه، لأن عمره الفردي والإنساني محدود، ومن ذلك فالكاتب مضطر إلى أن يتخذ البرهان الظني، لا البرهان الإحصائي مقياساً لنظريته.. البرهان الإحصائي ـ أن صح لنا هذا التعبير ـ والحقائق القطعية للمفردة القرآنية لا يملكها إلا الله ، بحكم ألوهيته المهيمنة على الوجود كله، وبحكم علمه غير المقيد بالزمان والمكان، انه الإحصاء الإلهي الثابت الذي لا يتغير، والكاتب لا يستطيع الوصول إلى تلك الحقائق القطعية، إلا إذا خرج عن دائرة القدرة البشرية، علمه البشري إلى أخرى أعلى لا نعلم حدها ولا مداها..
خاتمة البحث
وفي الختام: فإن تصنيف وتأصيل التعبيرات الاصطلاحية والسياقية للمفردة القرآنية من خلال المعاجم ما زالت تحتاج إلى الدراسات اللغوية الحديثة لتحررها من قيود الماضي الذي لم يتجدد حتى اليوم، لأنّ هذه المصطلحات التي نستعملها الآن ينقصها الاتفاق ووضوح الرؤية بالنسبة للمصطلح السياقي الأصيل نفسه، فنحن اليوم نقف عند الظاهرة اللغوية أثناء معالجتـنا لقضايا المفردة القرآنية، ثم نعرف تلك الظاهرة اللغوية بأنها المصطلح، وبهذا نلاحظ عدم اتفاقنا على مصطلح بعينه، ونجد أكثر من مصطلح عند الباحثين يعالج قضايا المفردة القرآنية الواحدة، لأن هذه المصطلحات معيارية تارة أو شائعة الاستعمال تارة أخرى، فقد يُراد الإشارة إلى معنى فتوضع مصطلحات تدل على معنى آخر، ومن ذلك يجب العثور على المصطلح السياقي الخاص الذي يتناسب مع المفردة القرآنية، وان نتجنب المصطلحات التي فقدت معناها الحرفي من ألفاظها المؤلفة منها, وصارت لها معانٍ لا تَمُت للمفردة القرآنية بشيء لو قسناها الآن عليها..
المصطلحات اللغوية ـ أن صح هذا التعبير ـ لا تعطينا تصوراً دقيقاً لمفهوم ظاهرة المفردة القرآنية، لأن بعضها قد يختلط بظواهر لغوية مشابهة أو مختلفة، لأن الباحثين يجهلون الظروف والملابسات التي تحيط بالتعبير الاصطلاحي السياقي للمفردة القرآنية نفسها ,, لذلك: يجب أن تستمد التعبيرات الاصطلاحية معناها من المفردات المكونة لها ولا تستمد معناها من اتفاق أصحاب اللغة على المصطلح اللغوي الذي تعارفوا عليه بعيداً عن المصطلح السياقي للمفردة القرآنية نفسها، لأن المصطلح اللغوي يتكون عادة من كلمات تكون في محصلتها مبهمة، وبذلك يختلف التعبير الاصطلاحي الذي يخضع لعرفية التعبير المبهم عن التعبير السياقي الذي يعتمد فهمنا له على المفردات المكونة له والذي يستمد معناه من العلاقة السياقية أو الإسنادية للمفردة القرآنية نفسها...
وبعد: فان الأبعاد النقدية لموضوع المفردة القرآنية في القرآن الكريم، لهي موضوع عناية الدارسين على مر العصور والأيام ولو أردنا رصد تلك الأبعاد النقدية، فسيحتاج منا ذلك إلى تظافر جهود متعددة، لإنجاز ذلك العمل متكاملاً..
لذلك.. فقد امتدت أيادي أفذاذ الكتّاب، وأساطين اللغة، وأرباب النقد ـ للمفردة القرآنية ـ محاولين البحث والتمحيص والكشف والإبانة، ومحاولين إنارة الطريق أمامنا، ولكن كان علمهم جميعاً «عوداً على بدء» لأننا ما زلنا في بداية الطريق، وما زلنا بحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسات المستنبطة من مفردات القرآن الكريم، بل من القرآن الكريم كله، وذلك للكشف عن القدرة الفنية، والإبداع التصويري، والأداء التعبيري الأصيل في لغة القرآن، باعتبارها مصدر علمنا وثقافتنا اللغوية والأدبية، ومنبع ثروتنا الفكرية الخالدة، وروح عقيدتنا التي لا نحيا بدونها..
«عوداً على بدء» وكان الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، قد بعث بالنبوة اليوم، وكان جبريل عليه السلام قد نزل على النبي محمد بقوله «اقرأ» الآن.. وكان الإسلام قد ولد لهذه اللحظة...
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد العفيفي، القرآن دعوة حق، مقدمة في علم التفصيل القرآني، المطبعة المصرية ـ الكويت ـ الطبعة الأولى 1376هـ / 1976م ـ ص5
(2) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة، منشورات ذات السلاسل ـ الكويت ـ الطبعة الأولى 1406هـ / 1986م ص 196.
(3) محمد العفيفي، القرآن دعوة الحق ص 174.
(4) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 110.
(5) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 205.
(6) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 246.
(7) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 267، 268.
(8) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 268.
(9) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 205.
(10) الإخلاص: 1.
(11) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة من ص 312 ـ 315.
(12) الشورى: «11»
(13) محمد العفيفي ، القرآن دعوة الحق ص 48.
(14) يونس: 61.
(15) سبأ: 3.
(16) سبأ: 3.
(17) لقمان 16.
(18) الرعد: 4.
(19) محمد العفيفي، القرآن دعوة الحق ص 42.
(20) محمد العفيفي، القرآن دعوة الحق ص 28، 29.
(21) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 205.
(22) النحل: 69.
(23) فاطر 27.
(24) فاطر: 28.
(25) الذاريات:7،8.
(26) محمد العفيفي، القرآن دعوة الحق، من ص 212 ـ ص 214.
(27) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 318.
(28) محمد العفيفي، القرآن دعوة الحق ص 41، ص 42.
(29) محمد العفيفي، القرآن دعوة الحق ص 43.
(30)، (31)، (32) محمد العفيفي، القرآن تفسير الكون والحياة ص 18، ص 19.
عن موقع الوسط .كوم
Selasa, November 24, 2009
Langganan:
Posting Komentar (Atom)
Tidak ada komentar:
Posting Komentar